ملخص
كلما حافظ الكاتب على شبابه في الكتابة تحرك القطيع وبدأ في رميه بمجموعة من المقذوفات الأخلاقية البائدة والبذيئة، فنسمع أو نقرأ كثيراً من العبارات الشعبوية المريضة التي تريد إسكات صوت الكاتب أو الكاتبة، كأن يوصف بـ “الشرف والتلف” (الكبر والضياع)، أو “عليه أن يغسل عظامه”، وهي عبارة تقال وكأن الكاتب كافر أو زنديق عليه أن يتوقف عن الكتابة ويذهب إلى الحج للاغتسال من أدرانها.
هل تشيخ الكتابة كما يشيخ صاحبها الكاتب؟ وما معنى شيخوخة النص وما معنى يا ترى شيخوخة الكاتب؟ هل يمشي النص يوماً ما على العصا كما قد يمشي صاحبه حين يصل عمراً معيناً؟ وما علاقة الجسد بالكتابة؟ هل تسقط أسنان النص ويدجن ويدخل بيت الطاعة كما قد يحدث لصاحبه وهو يدخل مرحلة أرذل العمر؟
أم هل النص الأدبي حاله كحال النبيذ حين يعتق في الدنان الخشبية فيصبح عالي الجودة، أفضل مذاقاً وأرفع سعراً، كما صاحبه حين يراكم التجارب مع تقدم العمر يصبح أكثر تأملاً ودقة وجرأة وحرصاً؟ وما معنى فخ الحرص، ذلك المنصوب ما بين الانصياع والقبول والاستسلام للأمر الواقع من جهة، وواقع ثقل السنين من جهة ثانية؟
ما في ذلك شك، بين أسرار الكتابة الإبداعية وأسرار رحلة الكاتب، وهو يقرض الأعوام بعد أخرى من عمره، خيط رفيع وربما مستتر يربط بينهما، فما بين الجسد والنص كيمياء عجيبة وغامضة.
تتميز الكتابة الإبداعية في الأعوام الأولى من تجربة أي كاتب مميز وموهوب بالتوهج والتوقد والتجلي، إذ تكون طاقة الكاتب المبدع عارمة والأحلام كبيرة وحس المغامرة متمكن وقوي، وهو ما يمنح النص نوعاً من الرغبة في التحرر والانعتاق، ويمكننا الجزم بأن الكاتب الموهوب، ليس أي كاتب، خلال الأعوام الأولى من عمر تجربته الأدبية، يكون أكثر عفوية، تلك العفوية التي تتجلى بأبعادها السلبية والإيجابية لكنها صادقة وأكثر شفافية، تلك الشفافية التي تكشف عن الصورة الأكثر صدقاً في الكاتب والنص، بغض النظر عن بعض علاته أو نقصه المرتبط بما يسمى بالأدبية، وتبيّن تجارب كثير من الكتّاب المبدعين الكبار بأن رواياتهم الأولى تكون عادة جريئة ومميزة وتحمل كثيراً من القوة والشجاعة والصدق، وربما تكون هي المحور الذي تظل تدور حوله الكتابات اللاحقة وتغرف منها حتى نهاية العمر الزمني والأدبي.
الكتابة في شبابها، أعني بذلك الأعوام الأولى لإبداع الكاتب المميز، تكون دائماً قلقة ومتوثبة، إنه القلق الوجودي عند المبدع الموهوب الباحث باستمرار عن محاولة قراءة وفهم ما يجري من حوله بسرعة ودفعة واحدة، البحث عن التفرد والتقدم.
المثقف العربي كائن “نوستالجي”!
ومع توالي الأعوام وتقدم العمر وما يرافق ذلك من تراكم في النصوص ومعها تعدد وتكاثر العلاقات الأدبية والثقافية، هذا الواقع الجديد سيدخل الكاتب في مربع جديد ربما حتى من دون أن يعي ذلك، إنه مربع التخطيط والتفكّر في المحيط، إذ يبدأ الكاتب ترتيب علاقاته الثقافية كاختياره الحضور في بعض المواقع والنأي عن بعضها الآخر، فالتخطيط والتفكر سيخلقان حالاً من الإرباك للعفوية التي تسكن مفاصل النص الأدبي، إذ سيحصل فيها انقلاب جزئي أو كلي، وستتقلص حرارة النص وتنكمش عفويته ويتراجع حس المغامرة فيه.
ومع تراكم متصاعد لأعوام العمر ومعها تراكم لنصوص مختلفة مرآة التجارب المتعددة، ينتقل الكاتب المبدع إلى مربع المنفعة الثقافية والاجتماعية، فيبدأ في التساؤل عن مردود الكتابة وجدواها الاجتماعي المعيشي، وهل هي قادرة على توفير اللقمة والكرامة؟
وحين يطرح الكاتب على نفسه مثل هذا السؤال، سؤال اللقمة والمنفعة، فاعلم بأنه يكون قد دخل مرحلة خطرة، مرحلة الاصطفاف الاجتماعي، وهنا تبدأ نهاية بعض الكتّاب، موتهم الإبداعي المباشر أو غير المباشر، بخاصة في عالمنا العربي والمغاربي، حيث يتخلون عن أقلامهم مرحلياً أو كلياً، ويصمتون أو يغيبون أو يختفون من المشهد الأدبي والثقافي، ويتعودون على هذا الغياب فيتحولون إلى كتّاب مناسبات وطنية أو دينية، كتّاب الديكور الثقافي، ويستسلمون لشروط الحياة الاجتماعية والمهنية الضاغطة بمتطلباتها القاسية الاستهلاكية.
وسيكون تأسيس أسرة في مثل هذه الحال، حال سؤال المنفعة واللقمة، من الأمور التي تزيد تهديد استمرار الكتابة، فالأسرة عندنا واحدة من أكبر مقابر الكتّاب والمبدعين، وبخاصة المرأة الكاتبة أو الفنانة، بما تشترطه هذه المؤسسة المحافظة من مسؤولية جسيمة لا يتسامح المجتمع حيالها، ثم يجيء الأطفال ويبدأ حلم الكتابة يبتعد ويبتعد ويتوارى، وحين تسمع الكاتب، أو الذي كان ذات يوم كاتباً، يردد عبارة تشبه عزاء الذات: “الأبناء كُتب أخرى”، وهذه العبارة في حد ذاتها إعلان صريح عن ساعة حفر قبر الكتابة ودخول الكاتب أو الكاتبة في صف “الإنسان العادي”، وسيصبح هذا الكاتب أو الكاتبة مع تقدم العمر وتكاثر الأبناء لا يتذكر الكتابة إلا بالصدفة، وسيتحول، على حد التعبير الفرنسي، إلى كاتب يوم الأحد L’écrivain du dimanche.
في مجتمعاتنا العربية والشمال أفريقية، بعد كارثة مقبرة المدرسة، حيث تغتال كثير من المواهب الصاعدة على مقاعدها باعتبارها مؤسسة تتميز بالإهمال ومحاربة الإبداع والذكاء، يجيء دور الأسرة لتقضي على الكاتب الذي يجد نفسه مضطراً إلى الخضوع لمسطرة من التقاليد المحافظة الصارمة التي لا تتسامح بالعيش مع المختلف أو الذي يريد أن يخرج عن سلطة القطيع، وعلى رغم ذلك فإن هناك فصيلاً آخر من الكتّاب الذين سيواصلون الكتابة جنباً إلى جنب مع خوض معركة الحياة الاجتماعية، وتسلق سلم أعوام العمر، وقد يلعب الحظ في أن تكون الأسرة التي يشكلها الكاتب أو الكاتبة متسامحة أو منسجمة مع جنون الكتابة، فيتمكن بكثير من القوة والذكاء الصمود أمام قساوة المسؤولية وصرامة المجتمع.
سيظهر تياران، في هذه المجموعة الناجية، تيار محافظ يريد أن يؤدي فيه الكاتب دوراً “لا يغضب الراعي ولا الذئب”، وبالتالي يواصل الكتابة في ظل تصور يحاول أن يبقى مبدعاً من دون أن يثير المجتمع المحافظ من حوله، حتى لتبدو هذه الكتابة خاضعة لما يشبه العقد الاجتماعي الموقع مسبقاً ما بين الكاتب والمحيط الذي يعيش فيه، وتتميز الكتابة في مثل هذه الحال، وفي مثل هذا العمر المتقدم وبحسب هذا العقد الاجتماعي، بنوع من الانتهازية السياسية والنفاق الاجتماعي والأخلاقي الذي بموجبه يتنازل الكاتب عن جملة من قناعاته، مع الاحتفاظ بالاستمرارية في الكتابة المهجنة والمروضة، ومع هذه الفئة المحافظة الناجية يصبح الكاتب منصاعاً وخاضعاً لرأي الشارع، فهو لا يريد أن يضحي بمكانته في مقابل المغامرة بالدفاع عن موقع الكتابة كرديف للحرية الفردية والجماعية، ومن هذا المنطلق يصبح الكاتب تحت إِمرة المجموعة، وهي التي تتكلم في سلوكه ونصوصه وتملي عليه مواقفه، وجراء هذا العقد الاجتماعي الثقافي يصبح الكاتب الناجي سعيداً بهذا الاحتضان الشعبوي الذي هو اغتيال مقَنع.
وهناك فصيل آخر من الكتّاب، وهو الذي يظل قابضاً على الجمرة من دون التنازل أو التراجع على رغم تقدم العمر، وهو ما يؤكد بأن القناعات والأفكار التي ظل يدافع عنها هذا الكاتب منذ مرحلة متقدمة هي رؤية فلسفية في الحياة وليست مزاجاً أو طفرة شباب أو مراهقة كما يقال، وهذ الفئة من الكتّاب سيكون تسلق العمر مدرسة لاختبار الأفكار والقناعات والمواقف لا التنكر لها، وتأكيد ذلك في سردية أدبية تتنوع وتتجدد لكنها لا تخون المبدأ الأساس.
هذه الفئة من الكتّاب الصامدين الحاضرين لا تعتبر مرحلة الشباب فترة طيش فكري أو أدبي، ولا تؤمن بأن الكهولة أو الشيخوخة مرحلة للتأمل والحكمة، ففي منظورها أن هذا التصنيف موقف تبريري وخاطئ في فهم جوهر الكتابة وشقاء ممارستها، وفهم خاطئ لمراحل الحياة أيضاً، فالعقل الذي يتشكل في ظل تراكم الأعوام العمرية وما يرافق ذلك من تطور التجربة الأدبية، وهذا العقل ماكر، فهو وسيلة ذكاء وحفر في المجتمع لا وسيلة تبرير للخيانة والندم.
الحكمة ليست نفياً ولا تناقضاً مع التوثب الشبابي في الكتابة، والحكمة والتأمل ليستا مرتبطتين بمرحلة عمرية معينة، والحكمة والتقدم في العمر بالنسبة إلى الكاتب المنسجم لا تعني التخلي عن قناعاته والاصطفاف مع صخب القطيع، والحكمة والتجربة تدفع الكاتب الحقيقي صاحب القناعات إلى الذهاب أكثر نحو الحفر في الحرية وفي المواضيع الاجتماعية المعقدة، وفي مصفوفات الممنوعات وممارسة التجريب المتعدد في جماليات الكتابة.
في العالم العربي وشمال أفريقيا، مع تقدم عمر الكاتب أو الكاتبة، تمارس الغوغاء حرباً غير أخلاقية من أجل تدجين صوتهما وكأن الكتابة لحظة غواية أو ضياع نابع من مرحلة الشباب، وليست قناعة والتزاماً فلسفياً وسياسياً وأخلاقياً في الحياة، فالكاتب الحقيقي هو من يعبر جميع مراحل الحياة شاباً، فلا كهولة ولا شيخوخة في الكتابة.
في مجتمعاتنا المحافظة العربية والمغاربية، كلما تقدم العمر بالكاتب، وبخاصة بالكاتبة، وظل محافظاً على روح الشباب في كتابته، لا يتوقف عن إثارة الأسئلة المغرضة والنقاش المشبوه حول ما يكتب، فكلما حافظ الكاتب على شبابه في الكتابة تحرك القطيع وبدأ في رميه بمجموعة من المقذوفات الأخلاقية البائدة والبذيئة، فنسمع أو نقرأ كثيراً من العبارات الشعبوية المريضة التي تريد إسكات صوت الكاتب أو الكاتبة، كأن يوصف بـ “الشرف والتلف” (الكبر والضياع)، أو “عليه أن يغسل عظامه” وهي عبارة تقال وكأن الكاتب كافر أو زنديق عليه أن يتوقف عن الكتابة ويذهب إلى الحج للاغتسال من أدرانها ويتوب عن كتاباته، وفي مثل هذا الهجوم العنصري والأخلاقي تعاني المرأة المبدعة الصامدة ضعف ما يعانيه الرجل الكاتب، وخلال العشريتين الأخيرتين زادت وسائل التواصل الاجتماعي من استفحال هذه الحال المرضية الثقافية الخطرة ضد الكتّاب والكاتبات.