في لحظة سورية شديدة الحساسية، تقف السويداء (في الجنوب السوري) مجدّداً عند عتبة التاريخ، لا باعتبارها شاهداً صامتاً على أزمات سورية، بل باعتبارها فاعلاً مأزوماً يحاول استعادة توازنه وسط تناقضات ما بعد الخلاص من نظام الأسد. ليست المشكلة في السويداء وحدها، بل فيما تمثّله من تعبير حيّ عن المعضلات السورية المتراكمة: التهميش، فقدان الثقة، واستثمار الذاكرة الجريحة في صناعة حاضر مأزوم.
جذور مركّبة لأزمة معقّدة
لا يمكن فهم ما يجري اليوم في السويداء من دون العودة إلى الجذور العميقة للقلق المتراكم، وهو قلقٌ لم ينشأ بعد سقوط النظام فقط (8/12/2024)، بل تراكم عبر سنوات، وتحوّل تدريجيّاً إلى شعور وجودي بالخوف من الإقصاء أو الإبادة. ولعل أبرز تجلياته بدأت عام 2015، في حادثة مجزرة “قلب لوزة” في ريف إدلب، حين اقتحمت مجموعة من عناصر جبهة النصرة قرية درزية في جبل السمّاق، وارتكبت مجزرة راح ضحيّتها أكثر من 20 سورياً مدنيّاً من أبناء الطائفة. لم يكن القتل على خلفية معركة، بل بدا أقرب إلى تصرّف انتقامي طائفي فجّ على خلفية نزاع محلي بسيط، تحوّل إلى مجزرة في دقائق، وسط صمتٍ مريبٍ من قوى المعارضة المسلّحة الأخرى، وتواطؤ ضمني من فصائل محسوبة على الثورة آنذاك.
تركت تلك الحادثة أثراً غائراً في الوجدان الدرزي عموماً، والسويداء على وجه الخصوص، إذ أعادت إلى الواجهة هواجس المجازر التي طاردت الأقليات في محطّات مختلفة من التاريخ. لكنها لم تكن الذروة. في صيف عام 2018، شنّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واحدة من أبشع هجماته ضدّ قرى ريف السويداء الشرقي، حيث نفذ سلسلة من المجازر المنسّقة طاولت نساءً وأطفالاً ومسنّين، وارتكب عمليات إعدام جماعية وخطف عشرات النساء والفتيات، وترك في أعقاب الهجوم أكثر من مائتي قتيل في مشهدٍ عزّز الاعتقاد لدى سكان الجبل أنهم مُستهدفون لخصوصيّتهم وانتمائهم.
ما زاد من وقع المجزرة أنّ الهجوم جاء بعد سلسلة انسحابات “غامضة” لقوات النظام من البادية الشرقية، فتحت المجال أمام التنظيم ليصل إلى مشارف السويداء من دون مقاومة تُذكر. لم تُفسّر هذه الانسحابات رسميّاً، لكنها في الذاكرة الجمعية لأبناء السويداء بدت كأنها صفقة دموية، أُطلقت فيها يد التنظيم لتأديب الجبل المتمرّد، الذي حافظ على حياده تجاه النظام، بل تجرّأ على رفع الصوت في وجهه.
هذان الحدثان (قلب لوزة 2015 وداعش 2018) لم يُعالجا بخطابٍ وطنيٍّ جامع، ولا بخطوات سياسية أو أمنية تستعيد الثقة بين مكوّنات المجتمع السوري. بل تُركا ليتضخما في اللاوعي العام، ويتحوّلا إلى رواية حذرة منغلقة داخل الجبل، تشكّك بكل ما يمتّ إلى الإسلام السياسي أو الحركات السنية المسلّحة بصلة، وتُقارب المشهد من زاوية وجودية، ترى في كلّ سلطةٍ لا تُمثّل الجبل خطراً مُحتملاً يجب التحوّط منه.
لم يكن موقف الشيخ الهجري المعارض ناتجاً فقط عن خصومة مع أشخاص أو خلاف على تمثيل، أو حتى تضخّم في الدور الذاتي فحسب، بل عن سردية متراكمة من التوجّس والارتياب
مع انطلاق حراك السويداء في صيف 2023، تبلور دور الشيخ حكمت الهجري بوصفه المرجعية الدينية والسياسية الأبرز للجبل والحراك، بعدما اتخذ موقفاً صريحاً ضدّ نظام الأسد، داعماً المحتجين، ورافضاً القمع، ما أكسبه شرعية مضاعفة بين الأهالي، وأضفى على الحراك غطاءً روحيّاً طالما افتقدته الانتفاضات السابقة. في تلك اللحظة المفصلية، توسّع نفوذه على حساب المرجعيات الأخرى (حمّود الحناوي ويوسف الجربوع)، التي تراجعت إلى الظلّ طواعيةً أو تحت ضغط الشارع، حتى بات يُنظر إليه المرجعية الوحيدة القادرة على تمثيل الجبل وصوغ مواقفه.
تحوّل ما بدأ كتفويض أخلاقي للدفاع عن مطالب الناس إلى تمثّلٍ شبه سلطوي للسويداء، إذ بات الهجري يعدّ نفسه “قطب الرحى” في الجبل، وزعيمه الأوحد دينيّاً وسياسيّاً، وهو ما انعكس لاحقاً في موقفه من السلطة الجديدة بعد إسقاط نظام الأسد. فمنذ اللحظة الأولى، تبنّى منهجاً صداميّاً صفريّاً في التعاطي معها، لا يترك هامشاً للحوار أو التفاهم، بل يرى في أيّ تعاون أو تواصل نوعاً من المناورة التكتيكية لا أكثر. بهذه الرؤية، تحوّلت المرجعية الدينية من ضامن اجتماعي إلى لاعب سياسي، ومن نقطة إجماع إلى مركز توتّر، يُقابل كلّ محاولة توافق بالرفض المطلق أو المناورة وشراء الوقت.
يُضاف إلى ذلك تعقيد آخر فرضته هوية السلطة الناشئة ذاتها، فرغم تبنّي حكومة ما بعد إسقاط الأسد خطاباً وطنياً جامعاً، يعلن القطيعة مع الخطابات الدينية أو الأدلجة العقائدية، إلا أن هيئة تحرير الشام (والتي لعبت دوراً محوريّاً في التأسيس العسكري والسياسي لهذه السلطة)، ويبدو أنها ما تزال تُثير حفيظة شريحة واسعة في السويداء، لما تحمله من إرثٍ مقلق.
ورغم محاولات “الهيئة” إعادة تقديم نفسها كياناً وطنياً يتجاوز إرثه العقائدي، إلا أن ذلك لم يكن كافياً (حتى اللحظة) لتبديد المخاوف المتجذّرة لدى شرائح واسعة من أبناء الجبل، ففي الوجدان المحلي والمخيال الجمعي، ما تزال صورة جبهة النصرة حاضرةً بقوة، بوصفها الخلفية التي خرجت منها “الهيئة”، وهي الصورة التي تأثّرت بوقائع دامية كحادثة قلب لوزة عام 2015. هذا الإرث، بما يحمله من جروح عميقة في الذاكرة، يصعّب مهمّة بناء الثقة، ويجعل من الخطاب التصالحي، مهما حسنت نياته، غير كافٍ ما لم يُترجم إلى ممارساتٍ واضحةٍ طويلة الأمد، تكرّس الشراكة وتتجاوز منطق السيطرة أو الغلبة.
من هنا، لم يكن موقف الشيخ الهجري المعارض ناتجاً فقط عن خصومة مع أشخاص أو خلاف على تمثيل، أو حتى تضخّم في الدور الذاتي فحسب، بل عن سردية متراكمة من التوجّس والارتياب، جعلته يرى في السلطة الوليدة تهديداً مضمَراً لهوية الجبل ومكانته، لا شريكاً في صناعة المستقبل. وهكذا انتقلت الأزمة من مطالب محلية قابلة للحل إلى مسألة وجودية شائكة، تُدار بعقلية الكسر لا الجبر.
وإذ يبدو ظاهر المشهد ذا طابع محلي صرف، إلا أن البُعد الإقليمي لا يمكن إغفاله، فمشكلة الهجري ليست محصورة في سياق داخلي فحسب، بل هي امتداد ضمني لصراع أوسع على الزعامة الدرزية في المنطقة، بين المرجعيتين المتنافستين: جنبلاط في لبنان وطريف في إسرائيل. وفي هذا السياق، يمكن قراءة تموضع الهجري بوصفه أقرب ما يكون إلى امتدادٍ غير معلن لتيار موفق طريف، سواء من حيث اللغة الخطابية أو مضمون التصريحات، التي كثيراً ما بدت متناغمة في نقدها الحكومة الجديدة ورفضها الانخراط في مشروع الدولة. يشير هذا التلاقي، وإن لم يُعلَن رسميّاً، إلى تشابك معقّد بين المحلي والإقليمي، يعمّق من هشاشة الموقف، ويجعل من السويداء ساحة تصفية حسابات غير مرئية.
السلطة وغياب الحساسية الثقافية
لم تكن السلطة الناشئة بعد سقوط النظام أقلّ ارتباكاً في تعاطيها مع المشهد المعقّد في السويداء، فعلى الرغم من ادّعائها السعي إلى بناء نموذج حكم مختلف، أكثر عدالةً وتمثيلاً، إلا أنّ قراراتها الأولى عكست قصوراً بنيويّاً في فهم الديناميات المحلية للجبل. لم يكن تعيين محافظ من خارج السويداء، في لحظة فارقة من تاريخ المدينة، مجرّد خلل إجرائي، بل رسالة رمزية خاطئة، فسّرها كثيرون استمراراً لمنطق المركزية الفوقية القديمة، لا قطيعة معها. ففي وقتٍ نُصّب فيه أبناء المحافظات الأخرى لإدارة مناطقهم، ما منح تلك الإدارات قدراً من الشرعية المحلية، اختير للسويداء محافظٌ من خارجها، لا يمتلك لا العمق الاجتماعي ولا الفهم الثقافي للمكان. وهو ما انسحب على بعض قيادات الشرطة والمؤسّسات التنفيذية. ورغم محاولة السلطة تعيين قيادات محلية في الضابطة العدلية والأجهزة الشرطية، إلا أنّ ذلك لم يبدّد المخاوف، وعزّزت التعيينات الفوقية قناعة لدى أبناء الجبل بأن السلطة لا ترى فيهم شريكاً، بل ملفّاً أمنيّاً يجب ضبطه، لا التفاعل معه.
تجلّى هذا القصور الإدراكي في الافتقار إلى الحساسية الثقافية في التعامل مع المحافظة. ليست السويداء مجرّد رقعة جغرافية، بل نسيجٌ اجتماعي قائم على أعراف ضاربة في العمق، وهرمية رمزية دقيقة، لطالما لعبت فيها المرجعيات الدينية والاجتماعية دور صمّام الأمان. تجاهل هذه الحقيقة، أو التعامل معها كعقبة يجب تجاوزها، فاقم منسوب التوتّر بدل احتوائه، وحوّل كلّ مبادرة من الدولة إلى موضع تشكيك، مهما كانت نياتها. ورغم محاولات السلطة المتكرّرة لبناء قنوات تواصل، وإرسال وفود لفتح حوار مباشر، إلا أن تلك المساعي كانت تصطدم بحاجزين:
• أولاً: انعدام الثقة المتراكمة، التي لم تنشأ من فراغ، بل تعمّقت بفعل إرثٍ طويلٍ من الإقصاء والتهميش في عهد النظام السابق، ثم تعزّز بمؤشّرات ميدانية وسلوكية بعد إسقاط نظام الأسد. من أبرز تلك المؤشرات المواجهات الدامية التي شهدتها أحياء كأشرفية صحنايا وجرمانا نهاية نيسان/ أبريل الماضي، وكان لها وقعٌ بالغٌ في وجدان أبناء الجبل، حيث رآها كثيرون تأكيداً لمخاوف قديمة من تَكرار مقاربات القوّة بدل الشراكة، وأثارت شعوراً عامّاً بأن “السويداء مستهدفة”، أو على الأقل غير محصّنة في سردية الدولة الجديدة. وزاد من تعميق هذا التوجّس ما اعتُبر “سلقًا” للاستحقاقات الوطنية الكبرى: من الحوار الوطني إلى الإعلان الدستوري، مروراً بتعيينات مفصلية في مؤسسات الدولة طغى عليها منطق الولاء لا الكفاءة، وكأن السلطة تُعيد تدوير منطق الإقصاء نفسه بأدوات جديدة. قوّضت هذه الإشارات، مجتمعة، الثقة المتبادلة، ورسّخت الانطباع بأن ما تغيّر هو الشكل لا الجوهر. هذا النوع من الأحداث والسلوكيات، مهما كانت ظروفه الميدانية، غذّى الريبة من نيات السلطة، ورسّخ الانطباع بأن الأدوات القديمة لا تزال تحكم الأداء الميداني.
في الوجدان المحلي والمخيال الجمعي ما تزال صورة جبهة النصرة حاضرةً بقوة، بوصفها الخلفية التي خرجت منها هيئة تحرير الشام
• ثانياً: غياب مركز قرار موحّد داخل السويداء. … مع تضخّم دور الشيخ حكمت الهجري وتحييد المرجعيات الأخرى، لم تعد هناك جهة قادرة على إنتاج موقفٍ جمعيٍّ متماسك. وجعل هذا التفكّك في البنية الداخلية أي اتفاق هشّاً، عرضةً للنسف من الداخل، سواء بسبب تضارب الولاءات، أو بفعل تدخلات خارجية ترى في استقرار الجبل تهديداً لمصالحها.
وبين انعدام الثقة والاضطراب الداخلي، تتسع الهوة يوماً بعد يوم، وتتآكل فرص الوصول إلى تسويات سياسية متزنة، فالسلطة التي لم تُحسن قراءة الجبل، واجهت مجتمعاً لم يَعُد يثق بسهولة، فاقم من تأزيمه الدور السلبي للهجري، وتفرّد السلطة بالحكم، ما أحدث حلقة مفرغة من التوجس المتبادل، تُجهض كلّ مبادرة قبل أن تولد، وتحوّل كلّ محاولة للتهدئة إلى شرارةٍ جديدةٍ للتصعيد.
التدويل الصامت للقرار
ربما كان أخطر ما أفرزته تعقيدات ما بعد التحرير في السويداء، ليس فقط الاحتقان الداخلي أو أزمة الثقة مع السلطة، بل الانزلاق التدريجي نحو تدويل القرار المحلي، وتحويل قضية الجبل من شأن وطني يمكن التفاوض حوله، إلى ملفٍّ إقليميٍّ تُدار خطوطه من خارج الحدود.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل تقاطع مصالح الهجري مع موفّق طريف، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في فلسطين المحتلة، والمقرّب من دوائر القرار في تل أبيب. لم يكن هذا التقاطع شكليّاً أو طقوسيّاً، بل حمل رمزية ثقيلة عبّر عنها في أكثر من محطة: بيانات دعم مباشرة للهجري، اتصالات علنية، وغلاف “روحي” يتم تسويقه مظلّة حماية للجبل.
وبينما هناك من يرى أنّ اللجوء إلى طريف كان محاولة لتعديل موازين القوى في ظلّ شعور بالخطر من سيطرة السلطة الجديدة، كانت المخرجات الفعلية أبعد من ذلك: لقد جرى إخراج قرار الجبل من سياقه الوطني، وتحويله ورقة ضغط في صراع إقليمي لا تملك السويداء فيه أدوات الفعل، لكنها قد تتحمّل كامل كلفته.
لم يأتِ التدويل هنا على شكل تدخل عسكري مباشر، بل عبر شرعنة الاصطفاف خارج الدولة تحت مسمّى “الحماية”، وإعادة تعريف العلاقة مع المركز ليس بوصفها شراكة تحتاج إصلاحاً، بل مواجهة وجودية تُخاض عبر دعم رمزي أو إعلامي خارجي. ويهدّد هذا النهج، في جوهره، بفكّ ارتباط السويداء بالمنظومة الوطنية السورية، ويحوّلها، بغير وعي ربما، إلى كيان شبه مستقل، يفاوض من موقع الخصومة لا من موقع الشراكة، ويبحث عن اعتراف خارجي لا عن تفاهم داخلي. ولعل المفارقة الأشد إيلاماً أن هذا التدويل الصامت يجري باسم الدفاع عن كرامة الجبل، بينما يؤدّي فعليّاً إلى تآكل دوره الوطني، وتشويه تاريخه الوطني، وتفكيك علاقته ببقية الجغرافية السورية التي خاض معها معركة الكرامة عقوداً.
تحويل مطالب محلية عادلة إلى أوراق إقليمية لا يفتح الباب للحلول، بل يغلقه نهائيّاً، ويدفع السلطة، مهما كانت أخطاؤها، إلى التصلّب بدل التفاهم، وإلى الحذر بدل المبادرة. وهو ما يعني أن الرابح الوحيد من هذه المعادلة الفوضى، وأن الخاسر الأكبر أبناء الجبل أنفسهم.
الخطاب التصالحي، مهما حسنت نياته، غير كافٍ ما لم يُترجم إلى ممارساتٍ واضحةٍ طويلة الأمد، تكرّس الشراكة وتتجاوز منطق السيطرة أو الغلبة
في مواجهة هذا الانزلاق نحو التدويل، لم تقف السلطة الوليدة موقف المتفرّج. إذ تزامن تحرّك الشيخ الهجري باتجاه موفق طريف مع تصاعد ملحوظ في النشاط الإسرائيلي على تخوم الجنوب السوري، تمثّل في بيانات رسمية عن “دور إسرائيل في حماية الدروز” في سورية، واستمرار اجتياح عسكري واستخباراتي هادئ لمناطق حدودية، بذريعة الخوف من السلطة الجديدة والاستعداد لأي تهديدٍ قد يمسّ الطائفة الدرزية. واستُقبل هذا المشهد المتشابك في دوائر صنع القرار السوري الجديدة إنذاراً مبكّراً بانفتاح جبهة جنوبية غير تقليدية، لا عبر الحرب المباشرة، بل عبر بناء نفوذ محلي تحت لافتات طائفية. .. وعليه، بدأت السلطة بمحاولات حثيثة لفتح قنوات تواصل مباشرة وغير مباشرة مع تل أبيب عبر وسطاء إقليميين ودوليين، هدفها احتواء التصعيد الرمزي، ووقف الاجتياح العسكري مناطق حدودية، وعزل ملف السويداء عن أجندات الخارج، عبر تفاهمات الحدّ الأدنى التي تمنع تحويل الجبل إلى منصّة استنزاف.
وهو ما تبرّره السلطة الناشئة كمحاولة اضطرارية لوقف التصعيد الإسرائيلي، وفكّ الارتباط الأمني بين إسرائيل وملف السوريين الدروز، بعدما بدا واضحاً أن الهجري ومن حوله باتوا مستعدّين لاستخدام هذا التقاطع أداة ضغط في الداخل، أو ضمانة بقاء سياسي ضمن توازنات ما بعد التحرير. لكن هذا المسار، وإن بدا عقلانيّاً من حيث التوقيت، إلا أنه ينطوي على أخطار كبيرة: فحين تضطر سلطة ناشئة لإدارة ملف داخلي عبر تفاهمات خارجية، فهي تُسجّل على نفسها عجزاً مبكّراً عن بناء شرعية وطنية مكتفية بذاتها. كما أن هذا النوع من التفاهمات، مهما كانت براغماتية، يفتح الباب لمزيد من التدويل في ملفات أخرى، ويُضعف مركزية الدولة في تشكيل العقد الوطني.
في المحصلة، دفع سلوك بعض الأطراف في الجبل ممن استدعوا الخارج كغطاء أو داعم السلطة الناشئة إلى التفكير بالأدوات ذاتها. وهذا يُعيدنا إلى المأزق نفسه: حين يفقد الداخل ثقته بذاته، يتحوّل الجميع إلى وكلاء لأطراف خارجية، وتصبح الوطنية مجرّد شعار يستخدمه الجميع… ضدّ الجميع.
من ثورة الكرامة إلى منطق الإمارة
رغم أن السويداء شكّلت طليعة الرفض الوطني، ورفعت لواء الكرامة في عزّ انكفاء الثورة، تجد نفسها اليوم رهينة لخطاب أبوّي مغلق يُعيد إنتاج الزعامة الدينية سلطة فوق النقد. المحافظة التي رفضت الانخراط في آلة القمع، والتي صمدت رغم التهميش والجوع، ودفعت ثمناً مضاعفاً من كرامتها وصبرها، لكنها الآن تقترب من أن تُختزَل في “إمارة معزولة”، لا صوت فيها يعلو فوق صوت المرجعية الروحية المُمثلة بشيخ فقد البوصلة السياسية، واحتكر القرار باسم الحماية.
في مشهد يتجاوز التقاليد الدينية، بات الشيخ حكمت الهجري يقود ما يشبه السلطة الموازية، تحت عباءة الدين، مُحاطاً بمليشيات محلية منفلتة، وعناصر مشبوهة من بقايا النظام، وبعض تجّار السلاح والمخدرات. وبينما يُفتح الباب على مصراعيه لكلّ من يجيد لغة العنف أو الولاء الشخصي، تُكمَّم أفواه النخبة الوطنية الصامتة، التي طالما عبّرت عن صوت الجبل الأصيل. تلك النخبة التي ترفض تسليح الطائفة، وتؤمن بأن كرامة السويداء لا تتحقّق بالعزلة، ولا بالصدام العسكري مع السلطة.
الانزياح نحو منطق الإمارة والانغلاق يحدث في لحظة تاريخية بالغة الحساسية، لحظة يحتاج فيها الجبل إلى أوسع انخراط عقلاني في صياغة مستقبل البلاد
وفي ظلّ هذا الانفلات، يدفع أهالي السويداء وحدهم ثمن الفوضى وغياب المرجعية المؤسّسية، ففي غياب الدولة، من يقوم بالمسؤوليات الأساسية في الحماية والخدمات؟ فالمدينة وخلال ثمانية شهور بعد إسقاط نظام الأسد ترزح تحت حكم المليشيات والسلاح والفوضى. غياب الدولة لا يملؤه شيخٌ مهما علا مقامه، ولا تُعوّضه شعارات الحماية الذاتية. بل المطلوب اليوم استعادة الدور الطبيعي لمؤسّسات الدولة، من دون عسف أو وصاية، لتكون ضامناً للأمن، وحاضنة للخدمات، وبوصلة للخروج من نفق الانعزال والفوضى.
والمفارقة أن هذا الانزياح نحو منطق الإمارة والانغلاق يحدث في لحظة تاريخية بالغة الحساسية، لحظة يحتاج فيها الجبل إلى أوسع انخراط عقلاني في صياغة مستقبل البلاد، لا إلى تقوقع يعزله عن المسار الوطني، فالسويداء، التي رفعت راية الكرامة حين خفتت في أماكن أخرى، لا يليق بها أن تُختزل في مشروع سلطوي قائم على التوريث الرمزي والاحتكار الأبوي. وإن كان ثمّة طموح لإصلاح السلطة في دمشق، لا يكون السبيل إليه بالمواجهة الصفرية أو بتكريس سلطات موازية، بل بالاشتباك المدني والسياسي داخل بنى الدولة، والعمل من داخلها على تصويب المسار، لا عبر الخروج عليه بالسلاح والقطيعة.
صوت العقل وصدى السلاح
في مرحلة ما بعد الخلاص من نظام الأسد، تصبح السلطة على علّاتها، ومهما كان عليها من مآخذ، حاجة موضوعية لا يمكن القفز فوقها بمنطق البنادق أو منابر الخارج، فالنقد الحقيقي لا يبدأ من فوّهة البندقية، بل من التجرّد عن منطق الغلبة، والإيمان بأن الإصلاح لا يتم بالسلاح، بل بفتح المسارات السياسية على التعدّد والتشاركية. والركون إلى عواصم أخرى، أو الاتكاء على رموز دينية متصلة بالخارج، لن يحمل للسويداء سوى مزيد من العزلة وخيبات الوعود. كلّ استقواء بالخارج إعلان ضمني عن العجز عن التفاهم مع الداخل، وهروب من الشراكة الوطنية والالتفاف بعباءة المظلومية.
مستقبل السويداء، كما مستقبل سورية، مرهون بإرادة السوريين في بناء وطنٍ لا يُقصي أحداً، ولا يُكرّس فوقية لمكوّن على حساب آخر
ليس المُقام هنا تبرئة طرف أو إدانة آخر، لكن لا بدّ من طرح الأسئلة الأهم: كيف نمنع تمزيق الجنوب تحت شعارات الحماية والانفصال الناعم؟ كيف نُعيد الثقة بين الجبل والدولة من دون وصايات أبوية أو أذرع مسلّحة؟ وهل نملك شجاعة الاعتراف بأن الانغلاق والتجييش قد يدفعاننا إلى الهاوية؟
ليس ما جرى في حي المقوس في السويداء حدثاً عابراً، بل تجسيد حيّ لانهيار الثقة الاجتماعية، وقرع مبكّر لأجراس الفتنة. وإذا لم تتدارك الدولة الموقف بسرعة، وتستعيد زمام المبادرة بمنطق الشراكة لا الغلبة أو الوصاية، سنكون أمام كارثة وطنية تُضاف إلى سجل النزيف السوري الطويل. … مستقبل السويداء، بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من جسد سورية، مرهون بقدرتها على الخروج من منطق الإمارة إلى منطق المواطنة، وبقدرة السلطة على أن تبني دولة لكلّ أبنائها، لا مجرّد هيكل فوقي يُدار بالولاءات.
مستقبل السويداء، كما مستقبل سورية، مرهون بإرادة السوريين في بناء وطنٍ لا يُقصي أحداً، ولا يُكرّس فوقيةً لمكوّنٍ على حساب آخر. الجبل، الذي كان طليعة النضال الوطني، لا يليق به أن يُختزل في مليشيا منفلتة أو مشيخة فقدت بوصلتها السياسية، وتُدار بوسائط عابرة للحدود. وسورية الجديدة، الخارجة من رحم الثورة، لا يليق بتضحيات أبنائها أن تُختزل في سلطة حزبية ضيّقة، تسلق الاستحقاقات الوطنية الكبرى، وتستعيد منطق الغلبة باسم “السيادة”، هرباً من الشراكة السياسية والحلول التوافقية.