منذ 90 يوماً وإسرائيل تشن حرب إبادة غير مسبوقة في وحشيتها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، نجم عنها تدمير معظم عمران مدن القطاع وبناها التحتية، وخسائر بشرية تزيد على مئة ألف، بين قتلى وجرحى ومعوقين ومفقودين تحت الركام ومعتقلين في السجون، مع قطع الماء والكهرباء والغذاء والوقود والدواء عن أكثر من مليوني فلسطيني باتوا مشردين في خيمة أو في العراء، غير مبالية بردود الفعل في العالم، على هذه الممارسات الإجرامية، وضمنه في عواصم ومدن الدول الحليفة لها.
على ذلك، فإن اغتيال إسرائيل نائب رئيس المكتب السياسي في حركة “حماس” الشيخ صالح العاروري، في بيروت قبل أيام، يأتي في السياق ذاته، بمعنى أنه ليس تصعيداً غير محسوب، كما يفترض البعض، إذ إن إسرائيل ظلت تعلن منذ اليوم الأول لتلك الحرب أنها ستحاول استهداف كل قيادي في “حماس”، يمكنها أن تطاله، أينما كان.
بيد أن وضع عملية الاغتيال هذه في سياقها الطبيعي، في إطار الحرب الدائرة في غزة، لا يقلل من أهميتها، ولا يغفل الرسائل التي توخّت إسرائيل توجيهها إلى الأطراف المعنيين.
رسالة إسرائيل، على الصعيد الفلسطيني، تفيد بإصرارها على إخراج “حماس” من المشهد، كسلطة في قطاع غزة، وهذا ما تفصح عنه في كل السيناريوات التي تروّجها عما تسميه “اليوم التالي”، بخصوص مصير غزة بعد الحرب. ومن جانب آخر، فإن هذا يفسر عدم استجابتها للمطالبات بوقف إطلاق النار، أي وقف حربها في غزة، إلى حين تقويض، أو زعزعة، وجود “حماس”، كبنية عسكرية، في غزة؛ علماً أن ذلك ما تشتغل عليه في الضفة الغربية والقدس، أيضاً، إذ بلغ عدد المعتقلين نحو ثلاثة آلاف فلسطيني، تشتبه إسرائيل بأن أكثر من نصفهم ينتمون إلى “حماس”، بحسب تبريراتها. وبديهي أن ذلك يعني أن إسرائيل تخوض حرباً مفتوحة ضد “حماس” في المكان والزمان، في السياسة والجغرافيا والبنية.
غير أن الرسالة الأهم هي الموجهة إلى “حزب الله”، وإلى إيران، أولاً، لأن عملية الاغتيال حصلت في الضاحية الجنوبية، حيث معقل “حزب الله”، أو مربعه الأمني. ثانياً، هي بمثابة تحد لنصر الله الذي هدد إسرائيل، منذ بداية الحرب، محذراً إياها من الاعتداء على أي شخصية قيادية تنتمي إلى محور المقاومة والممانعة في لبنان. ثالثاً، تعتبر هذه العملية كسراً واضحاً لما يسمى “قواعد الاشتباك”، وهذا مصطلح يجري الترويج له من “حزب الله” وحلفائه، بدعوى أنهم استطاعوا فرضه على إسرائيل، فيما لا تعترف به إسرائيل، من ناحية عملية، بدليل خرقها له، مراراً وتكراراً، في هجماتها المتوالية في إيران، وسوريا والعراق ولبنان. رابعاً، تعد العملية بمثابة اختبار آخر يكشف خواء شعار: “وحدة الساحات”، بغض النظر عن رأينا به. فمنذ بداية الحرب على غزة، تُركت “حماس” وحدها في المعركة، ما أثار عدداً من التساؤلات، لا سيما مع رواج تسريبات، عن تنصل إيراني متعمد، وعن خذلان “حزب الله”، وتغطية ذلك بمناوشات حدودية، على نقيض كل الادعاءات التي كانت تصدرها إيران، و”حزب الله”، في شأن إمكان القضاء على إسرائيل، وهزيمتها، وحتى تسويتها بالأرض، في غضون بضعة أيام.
وبغض النظر عن التصريحات الدعائية، فلا شيء يفيد بأن إيران أو “حزب الله”، أو أي فريق من “المقاومة والممانعة” سيرد على عملية الاغتيال تلك، إذ لم يسبق لهذا المعسكر (الذي أقحم فيه نصر الله ميليشيات الحشد الشعبي العراقي) أن رد على أي عملية سابقة، بدلالة قيام إسرائيل، أسبوعياً، بشن هجمات على الأراضي السورية مستهدفة مواقع وقوافل ومستودعات للحرس الثوري الإيراني أو لـ”حزب الله، من دون أن تجابه بأي رد. أما إيران فهي من جهتها لم ترد على اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ولا على اغتيال مهندس المشروع النووي الإيراني محسن فخري زاده. وقبل اغتيال إسرائيل العاروري بأيام قليلة تم اغتيال منسق الحرس الثوري الإيراني في سوريا رضيّ الموسوي في دمشق، وبعد اغتياله اغتالت إسرائيل حسين يزبك مسؤول “حزب الله” في الناقورة.
اللافت هذه المرة، بعكس كل الادعاءات السابقة، عن القضاء على إسرائيل، فإن الخطاب الإيراني وخطاب “حزب الله” (في كلمات نصر الله) بدا غاية في “العقلانية” و”الحكمة” فجأة! فبحسب بيان للحرس الثوري (3/1) فإن “الاحتلال الإسرائيلي لن يكون قادراً، من خلال ارتكاب هذه الأعمال، أن يُحدث خطأً استراتيجياً في حسابات المقاومة… الصبر الاستراتيجي للمقاومة وحزب الله لن يبتعد من العقلانية والمنطق ومتطلبات التغلب على محتلي فلسطين والقدس”. وبالمثل، فإن نصر الله أكد في خطاب سابق له أن “مقاومة إسرائيل تحتاج إلى استعدادات وإلى تدرج، لا إلى ضربة قاضية”!
في كل حال، فإن عملية الاغتيال تلك هي من طبيعة إسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، التي تمارس إرهاب الدولة المنظم، فهي قامت أصلاً على يد جماعات إرهابية (هاغاناه، وأرغون/إيتسيل، وشتيرين ـ ليحي)، والأخيرة هي المسؤولة عن اغتيال الكونت برنادوت السويدي (1948 في القدس)، واللورد موين البريطاني (1944 ـ القاهرة)، لمواقفهما المعارضة للصهيونية، ويأتي ضمن ذلك تفجيرها مقر قيادة الجيش البريطاني في فندق الملك داود (القدس)، 1946، ما أسفر عن مقتل 28 بريطانياً و17 يهودياً و41 فلسطينياً.
أما أشهر عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل، فهي تلك التي أودت بحياة الروائي الفلسطيني غسان كنفاني القيادي في الجبهة الشعبية (بيروت، 1972)، ثم القياديين في “فتح” ومنظمة التحرير محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر (بيروت، 1973)، وماجد أبو شرار (روما، 1981)، وخليل الوزير في (تونس، 1988). ثم فتحي الشقاقي مؤسس وقائد “حركة الجهاد الإسلامي” في فلسطين (مالطا، 1995)، ومصطفى الزبري الأمين العام للجبهة الشعبية (رام الله، 2001) والقياديين في حركة “حماس” صلاح شحادة (2002) وعبد العزيز الرنتيسي (غزة 2004)، ومؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين (غزة، 2004)، وصولاً إلى ياسر عرفات (أواخر 2004). وتتميز عمليتا اغتيال الشهداء عدوان والنجار وناصر في بيروت، وخليل الوزير في تونس، بأنهما تمتا بتدخل وحدات عسكرية محمولة في قوارب بحرية، وفي الأولى شارك إيهود باراك، وفي الثانية موشيه يعلون.
وبإيجاز، فإن إسرائيل تغتال الشعب الفلسطيني يومياً، بأشكال شتى، أيضاً، ضمنها الاعتقال والتهميش والنفي أو التغييب، والإزاحة من المكان والزمان والمعنى، وعملية اغتيال العاروري تأتي في هذا السياق، مع رسائل أخرى، أوجبتها ظروف الحرب وتداعياتها.