أكثر ما يضر بقضايا الشعوب التحررية والوطنية هو فقدان قادتها للقرار السياسي المستقل. وتتم مصادرة استقلالية القرار الوطني للشعوب والدول بعد أن تتحول أدواتها النضالية المفترضة وأنظمة الحكم فيها إلى بيادق ودمى، بشكل جزئي أو شبه كلي أو كلي، في أيادي دول وأنظمة أخرى لها من المصالح والأجندات ما يتناقض كليا مع تطلع تلك الشعوب إلى الحرية والاستقلال، أو تطلع تلك الدول إلى الاستقرار والازدهار.
ولعل مثال حركة حماس الإخوانية وارتهان قرارها بنظام الملالي في طهران، وما استجلبه ذلك ومازال يستجلب من ويلات وفظائع يكتوي بنيرانها الفلسطينيون في قطاع غزة، نموذج حي وماثل للعيان. فالحرب التي أعلنتها حماس في السابع من أكتوبر الماضي ضد إسرائيل، وما استتبعه ذلك من حرب إسرائيلية مضادة وشرسة، لم تكن حرب الشعب الفلسطيني أو الغزاويين أو الدول العربية ضد تل أبيب، وإنما كانت حرب إيران بالوكالة بواسطة حماس التي تشكل قطبا من أقطاب محور “الممانعة” الذي يخدم عمليا أجندات الغرب وتيار اليمين المتطرف في إسرائيل. هذا اليمين المولع بتطبيق العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين وأخذهم بجريرة حماس التي خطفت قطاع غزة واستولت عليه منذ سنة 2007 بعد الإطاحة بحكم حركة فتح.
تحريك جبهة غزة من قبل طهران في هذا التوقيت يأتي في سياق صراعها الظاهري مع الولايات المتحدة بشأن ملفها النووي والعقوبات الأميركية والغربية الاقتصادية الصارمة المفروضة عليها منذ أمد. فكلما انحشر نظام ولاية الفقيه بطهران في الزاوية الضيقة والمظلمة بدأ بتحريك أذرعه السرطانية في المنطقة، ابتداء من العراق ومرورا بسوريا ولبنان وغزة وانتهاء بجماعة الحوثي في اليمن، تحت راية ضرب المصالح الأميركية، علما أن نظام الملالي يهدد ويضرب واقعيا مصالح الدول العربية المعتدلة في المنطقة، أو على الأقل يهدف إلى تهييج الرأي العام العربي والإسلامي ضد هذه الدول، وذلك عن طريق بث الخطاب الشعبوي القومي والديني والمذهبي المتزمت الذي لم يجن منه العرب والمسلمون سوى الخسائر.
ومن بين الأهداف التي تسعى إيران إلى تحقيقها من وراء الحرب الراهنة بواسطة الأداة حماس خلط الأوراق من جديد على الصعيد الإقليمي، بعد هبوب رياح الاعتدال والتطبيع بين إسرائيل ودول عربية خاصة الخليجية منها، على عكس ما تشتهي سفن الولي الفقيه الإيراني.
كلما اشتدت رياح التغيير والاعتدال والتطبيع في المنطقة عمدت طهران إلى افتعال الأزمات، عبر استنفار واستخدام وكلائها في المنطقة ضد خصوم طهران، وذلك بإطلاق رياح مضادة قوامها التطرف والتشدد. هؤلاء الوكلاء أصبحوا بمثابة اللعنة والنقمة على البلدان التي يوجدون فيها.
وفي هذا السياق يقول الكاتب الأميركي توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز “أعتقد أن إيران، مثل حماس، رأت في الجهود الأميركية – الإسرائيلية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية الإسلامية تهديدا إستراتيجيا كان من شأنه أن يترك إيران ووكلائها معزولين في المنطقة”، خاصة وأن النتائج المترتبة على التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، ولاسيما السعودية، على المدى القريب والبعيد لن تكون لصالح طهران، وقد تؤدي تدريجيا إلى تقليص نفوذها وإرخاء قبضتها على الدول الأربع، العراق وسوريا ولبنان واليمن، هذه البلدان التي لطالما تباهى المسؤولون في طهران بأن إيران هي التي باتت تحكم فيها عمليا.
الدول الأربع أضحت بمثابة حقل تجارب لسياسات ومرامي إيران الخبيثة دون اكتراث لسلامة شعوبها واستقرارها وسيادتها، وإنما فقط لأجل دعم مكانتها الإقليمية وبقائها لاعبا على ساحة النفوذ والاستقطاب الإقليمية والدولية على حساب سلامة واستقرار وسيادة هذه الدول التي تتغلغل فيها بواسطة وكلائها المحليين.
وبعد أن ورطت إيران حركة حماس في حرب غير متكافئة مع إسرائيل يدفع الفلسطينيون ثمنها، لم تحرك طهران ساكنا سوى الشجب والتنديد الدبلوماسي والإعلامي وحضّ وكلائها في لبنان واليمن على إطلاق بعض “الفتاشات” ضد إسرائيل لذر الرماد في العيون. وقد باتت إيران قلقة أكثر من أي وقت مضى على مصير أذنابها في لبنان واليمن فيما إذا اتسع نطاق الحرب، خاصة إذا تأكدت طهران أن حماس في غزة صارت مهددة وجوديا، الأمر الذي سيفتح شهية إسرائيل لتوجيه ضربة قاضية إلى حزب الله الإيراني في لبنان.
سعت طهران من وراء أزمة غزة الحالية إلى إشعال حرب شاملة بين إسرائيل والدول العربية لإنهاك جميع المتحاربين، الأمر الذي سيصب في نهاية المطاف لصالح طهران، أو على الأقل استدراج الدول العربية المعتدلة ولاسيما مصر والأردن بشكل أو بآخر إلى أتون الحرب الدائرة، بالإضافة إلى إحراج دول الخليج بعدم جدوى وعبثية خيار التطبيع مع إسرائيل، وتجييش الرأي العام العربي والإسلامي ضد المطبعين مع تل أبيب عن طريق القنوات الإعلامية التي تبث الخطاب الشعبوي المتطرف.
كل هذه المغامرات والمقامرات التي تحيكها وتحبكها إيران حول مصائر الشعوب والدول هي لإثبات وجودها وفاعليتها على الأرض، ومن أجل مقايضة الغرب حول ملفها النووي ومستقبل العقوبات الاقتصادية التي تعاني منها منذ عدة سنوات.
أدوات وتجليات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، سواء أكانت أنظمة حكم أم جماعات، أصبحت وبالا على الشرق الأوسط والمنطقة عموما بسبب تبنيها خطابا أصوليا يريد إرجاع المنطقة قرونا إلى الوراء، وإشعال وتأجيج الصراعات الدينية والمذهبية من جديد. هذا الخطاب يبرر لأنظمة الحكم في طهران وأنقرة التدخل في شؤون الدول الأخرى والتحكم في مصائرها، كما هو حال إيران في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، وكما هو حال تركيا في سوريا وليبيا والعراق وقبرص.
◙ تحريك جبهة غزة من قبل طهران في هذا التوقيت يأتي في سياق صراعها الظاهري مع الولايات المتحدة بشأن ملفها النووي والعقوبات الأميركية والغربية
ومن المفارقات في هذا الميدان مباركة الولايات المتحدة والغرب عمليا للتدخلات الإيرانية والتركية السافرة في شؤون المنطقة. كيف لا، وقد تم تنصيب نظام الملالي في طهران سنة 1979 من قبل الغرب، بعد أن استضاف الغربيون الخميني في باريس قادما من النجف، وبعد أن سلطوا عليه الأضواء ووصفوه بالثائر ثم مهدوا له الطريق نحو الحكم في طهران عقب تحييد الجيش الإيراني وحمل الشاه على الهروب والادعاء بوجود ثورة وما إلى ذلك من هذا الهذيان. وجود نظام الملالي في طهران يخدم أجندات الولايات المتحدة والغرب عموما لأنه يجلب إلى المنطقة عدم الاستقرار وهذا هو ديدن واشنطن والغرب إجمالا.
هذا هو ثمن فقدان استقلالية القرار السياسي والسيادي والارتهان بإرادة الآخرين كما فعلت حماس ومازالت تفعل في غزة؛ خوض المغامرات والمتاجرة بأرواح الأبرياء وسلامتهم وممتلكاتهم، واعتبار الأرواح مجرد أرقام ومشاريع قتل (شهادة) في سبيل إرضاء نزوع قادة حماس وأسيادهم في طهران إلى التطرف والجهاد المزعوم ومنْح اليمين الإسرائيلي المتطرف مسوغات التنكيل بالمدنيين الفلسطينيين الأبرياء.
حركة حماس الإخوانية منذ تأسيسها الرسمي سنة 1987 أصبحت شوكة في خاصرة العمل الفلسطيني الموحد، وإحدى الحركات التي جابهت منظمة التحرير الفلسطينية بالفكر والسلاح، هذه المنظمة التي تعتبر الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني من وجهة نظر العالم أجمع.
وتتبنى حماس وجهة نظر متطرفة حيال حل القضية الفلسطينية تتمثل في عدم الاعتراف بإسرائيل وبوجوب الجهاد ضدها وإزالتها، مع ما يترتب على ذلك من فواتير باهظة الثمن يدفعها الفلسطينيون في غزة الذين يعتبرون ضحايا أفكار ومجازفات قادة حماس والولي الفقيه أولاً، واليمين الإسرائيلي المتطرف ثانيا.