كان التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لدى زيارته الخاطفة للبنان يوم الجمعة الماضي ملفتاً للانتباه، وقد قال الوزير: «إننا ندعم المساعي الرامية لوقف إطلاق النار بشرط: أولاً، مراعاة حقوق الشعب اللبناني؛ ثانياً، أن تكون مقبولة من قِبَل المقاومة؛ وثالثاً، أن يكون متزامناً مع وقف لإطلاق النار في غزة». ذلك أنه إذ تماشى الشرطان الأول والثاني مع اللياقة الدبلوماسية من حيث التأكيد على ضرورة مراعاة ما يريده المعنيون الأوائل، أي شعب لبنان والمقاومة، والمقصود «حزب الله» بالطبع، فإن الشرط الثالث جاء مناقضاً لما سبقه، يشكّل تطفّلاً مكشوفاً على ما يُفترض به أن يكون من صلاحية اللبنانيين، حكومةً وحزباً. فإذا كان قرار الحزب قبل عام إشعال حرب استنزاف محدودة مع الدولة الصهيونية تضامناً من غزة، غداة عملية «طوفان الأقصى» إذا كان ذلك القرار مستقلاً كما يدّعون (طبعاً لم يكن، إذ لا يتخذ الحزب قراراً في هذا الصدد بلا الرجوع إلى مرجعيته الإيرانية) فإن ربط وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية بحصول مثله على الجبهة الغزّاوية، إنما هو من حيث المبدأ قرارٌ من صلاحية الحزب بالتنسيق مع الدولة اللبنانية، ولا يجوز أن تقرّر طهران أن تَزامُنَه مع وقف إطلاق النار في غزة شرطٌ مطلق.
والحال أن إصرار طهران الذي أفصح عنه وزير خارجيتها يتناقض مع الأجواء اللبنانية التي بانت من خلال تصريحات رسمية لبنانية استشهدت برئيس مجلس النواب، نبيه برّي، حليف «حزب الله» بامتياز. فقد صرّح رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، بعد اجتماعه بهذا الأخير في الأسبوع الماضي، يوم الإثنين، قائلاً: «نحن في لبنان مستعدون لتطبيق 1701» أي قرار مجلس الأمن الدولي 1701 لعام 2006 القاضي بانسحاب قوات «حزب الله» إلى شمالي نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني محلّها في الجنوب. ولم يكن ميقاتي ليصرّح بذلك بلا ضوءٍ أخضر من الحزب أبلغه برّي به. كما أكّد وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب، يوم الخميس، أن أمين عام الحزب، حسن نصر الله، قَبِل بالدعوة الفرنسية ـ الأمريكية إلى وقف النار لمدة ثلاثة أسابيع أيام قليلة قبل قيام سلاح الجوّ الإسرائيلي باغتياله بقصف مهول. هذا فضلاً عن ردّ النائب حسين الحاج حسن، عضو «حزب الله» البارز وعضو «كتلة الوفاء للمقاومة» في المجلس النيابي اللبناني، على سؤال عمّا إذا كان الحزب مستعداً لفصل غزة عن مصير جبهة لبنان بقوله: «بالنسبة إلينا الأولوية هي لوقف إطلاق النار ونحن منفتحون على أي بحث آخر».
إصرار طهران الذي أفصح عنه وزير خارجيتها يتناقض مع الأجواء اللبنانية التي بانت من خلال تصريحات رسمية لبنانية استشهدت برئيس مجلس النواب، نبيه برّي، حليف «حزب الله» بامتياز
في ضوء كل هذه التصريحات، تتخذ زيارة عراقجي الخاطفة معنىً خاصاً، تبدو من خلاله وكأنها جاءت للتصدّي لميل «حزب الله» إلى العدول عن موقفه الذي شرط وقفاً لإطلاق النار من قِبِله بوقف مماثل في غزة، العدول عن هذا الموقف والقبول بوقف النار في لبنان حؤولاً دون استمرار المحدلة الصهيونية بتدمير مناطق انتشار الحزب وسحق أهلها. فماذا يمكن أن تكون الاعتبارات الإيرانية في رفض قبول «حزب الله» بوقف إطلاق النار؟ لإدراك ذلك، لا بدّ من فهم السياق الذي بدأ مع «طوفان الأقصى» وقد أحرجت تلك العملية الحكم الإيراني، لا سيما أن «حماس» دعته علناً وسائر أطراف «المقاومة الإسلامية» إلى الالتحاق بالمعركة التي بادرت إلى تفجيرها. وقد جاء التفاعل الإيراني مع دعوة «حماس» عن طريق تحريك الأعوان العراقيين واللبنانيين وتشجيع الحلفاء اليمنيين في خوض حرب استنزاف محدودة، وقع حملها الأكبر وبكثير على أكتاف اللبنانيين في حين حافظ الحكم السوري كعادته على أمن الاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان من خلال منع أي هجوم على هذا الأخير ينطلق من الأراضي التي تحت سيطرته.
هذا وقد اتّضح قبل أسابيع أن القوات المسلّحة الصهيونية انتهت من مرحلة القتال الكثيف في غزة، بعد أن دمّرت معظم مباني القطاع وقتلت عدداً هائلاً من أهله ولم يبق على جدول أعمالها سوى مواصلة تدمير شبكة الأنفاق ومطاردة من بقي يرفع السلاح في وجهها. فغدت تركّز اهتمامها الرئيسي على جبهتها الشمالية، أي على لبنان، لكن على إيران أيضاً حيث لا يرى الحكم الصهيوني في «حزب الله» سوى ذراعٍ لطهران وفصيلٍ من فصائل «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني. وقد صعّد الحكم الصهيوني بغتةً هجومه على الحزب، بما في ذلك اغتيال الأمين العام، وهو يعلم أن هذا من شأنه حضّ إيران على القيام بعمل ما، ولو من باب رفع العتب لا غير. فإن غاية الحكم الصهيوني هي جرّ إدارة بايدن التي أكّد رئيسها يوم الجمعة الماضي أن «ما من إدارة ساعدت إسرائيل أكثر مما ساعدتُها» مكرّراً النفي (None) ثلاث مرات، جرّ هذه الإدارة إلى مواجهة واسعة النطاق مع إيران قبل خروجها من البيت الأبيض. ومن هذا المنظور، فإن وقفاً لإطلاق النار وبدايةً لتسوية دبلوماسية في لبنان لا يشكّلان فصلاً للجبهة اللبنانية عن الجبهة الغزّاوية المسحوقة بقدر ما يشكّلان فصلاً للجبهة اللبنانية عن الجبهة الإيرانية ذاتها. وحيث دعّمت طهران «حزب الله» وسلّحته ليكون فصيلاً أمامياً لقواتها في مواجهة محتملة مع المحور الإسرائيلي ـ الأمريكي، فهي لا تريد البتة أن ينسحب الحزب من لعب هذا الدور من خلال وقف لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية.
كاتب وأكاديمي من لبنان