ترجمة وتقديم : إسكندر حبش
كان الموت دائمًا بانتظار عوليس [1] وهو في الماء… لكنه في كلّ مرة كان يهرب منه، لا عبر السباحة، بل بفضل حجابه، الذي شكل موضوعًا أساسيًا نجده يجتاز الأوديسة بأسرها.
هذه هي الفكرة التي يتناولها الكاتب الفرنسي المعاصر والطبيب النفسي مارك لوبييز، في مقالته هذه، الذي يعيد فيها قراءة فكرة واحدة من أوديسة هوميروس – وارتباطها بالإلياذة – وهي فكرة نجاة عوليس، من البحر، لا من خلال السباحة، ولا عبر مركبه، بل بفضل حجاب يختفي فيه، كانت قدمته له الإلهة ليوكوثيا، بعد أن قرر أن يغادر جزيرة كاليبسو، وعودته إلى الحالة الإنسانية. نص قصير، لكن يقدم تأويلات عديدة، ربما من الأفضل أن نترك للقارئ البحث فيه عن معانيه الخاصة.
النص
يروي لنا النشيد الخامس من الأوديسة [2] عن عودة عوليس من عند كاليبسو [3] إلى جزيرة أهل فيشيا [4]، القريبة جدًا من إيثاكا [5]، على الرغم من أنها تقع في نوع من العالم الآخر، مثلما كانت تقع عليه جزيرة كاليبسو. وبالتالي فإن هذه العودة هي إذًا عودة إلى عالم الإنسان. بمجرد أن قررت الآلهة السماح لـ عوليس بالعودة، نُقلت رسالتهم بواسطة هرمس [6] إلى الحورية، لذا كان من الضروري تنظيم رحيل البطل. بالنسبة إليه، كان هذا [التنظيم] يتألف بشكل أساسي من بناء سفينة صغيرة في غضون أيام قليلة، مزودة بشخص قوي البنية وعارضة دفة، كما أن تكون مجهزة أيضًا بصاري وشراع. لمدة سبعة عشر يومًا ومن دون أن ينام أبدًا، أبحر عوليس للأمام مباشرة، حاملًا الدب الأكبر [7] في يده اليسرى. وإذا كان هوميروس قد استحضر الدب الأكبر عن طريق المزامنة للنجم القطبي، فإن الطريق المتبع كان بذلك يتجه نحو الشرق. في اليوم الثامن عشر، يرى عوليس جزيرة فيشيا وغاباتها المظلمة. لذا حدس أنه قد وصل تقريبًا. في تلك اللحظة بالذات، يدرك بوسيدون، العائد من أفريقيا، وبينما كان يتأمل الوضع من أعلى جبل سوليم (الذي بهذا المعنى لا يقع في القدس!)، أن عدوه القديم ينجح في العودة إلى موطنه في ظروف جيدة. إزاء ذلك يطلق الإله عاصفة لتهب عبرها الرياح من النقاط الأساسية الأربعة في الوقت عينه.
شَعَر عوليس لحظتها أن ثمة غرقًا محتملًا، لذلك أحسّ بالخشية من مصير أقسى ممّا لو أنه كان مات على اليابسة، قبالة طروادة، لأن ذلك لو حدث، لحصل لاحقًا على مراسم جنازة لائقة ولكانوا أنشدوا وغنّوا مجده. في تلك اللحظة ألقته موجة كبيرة في البحر الهائج وحطمت سفينته. فوجد نفسه ورأسه في الماء وقد ابتلع كمية كبيرة منه، من غير أن يكون قادرًا على الخروج بسبب ثقل ملابسه المبللة. كان همّه الأوحد أن يستطيع الإمساك، قدر الإمكان، ممّا بقي من طوفه. تدفعه الرياح الأربع إلى هنا وهناك، كانت كلّ واحدة تطيح به في اتجاهها. في هذه اللحظة، تشفق عليه الإلهة ليوكوثيا [8] وتقدم له طريقة أكيدة لضمان بقائه على قيد الحياة: الحجاب (النشيد V، البيت 184).
تعد الأوديسة ركنًا رئيسًا للأدب الغربي الحديث، فهي ثاني أقدم عمل أدبي أنتجته الحضارة الغربية، بينما الإلياذة هي الأقدم |
يمكننا أن نتخيل أن هذا الحجاب (κρήδεμνον، krèdemnon) له شكل وشاح يتدلى على جانبي الوجه ويمكن إرجاعه إلى فوقه. يقال في النشيد الأول من الأوديسة (البيت 334) أن بينيلوب [9] “أعادته على خديها”. في الإلياذة (النشيد الرابع عشر، البيت 184)، تُزين هيرا [10] نفسها بهذا الحجاب لإغواء زيوس وجعله ينام. “تغطي” نفسها بـ(καлύπτειν، كاليبتين). في [الأوديسة] يُستخدم الفعل كاليبتين عينه. فعبر إعطائها هذا الحجاب لـ عوليس، يأمره ليوكوثيا بالسباحة بقوة وهو يضع هذا الحجاب على صدره، لأنه حجاب “خالد” (ἄμβροτον، أمبروتون) كما أنه يأتي من الألوهية وكذلك لأنه يحمي من الموت. وبعد ذلك تغوص الإلهة مرة أخرى في البحر الذي “يغطيها” (καлύπτειν، كاليبتين، البيت 353).
لا يثق عوليس بوعد الخلاص هذا ويفضل البقاء متمسكًا بما تبقى من طوفه طالما أنه يقاوم. حتى وإن كان محميًا بهذا الحجاب، إلا إنه لم يقرر السباحة إلا عندما يجد نفسه أنه لا يستطيع القيام بأي أمر آخر، وهذا ما حدث بعد فترة قصيرة. في تلك اللحظة بالذات، يكتشف الملابس التي أعطتها له كاليبسو (καлυψώ)، “الغطاء”، الستر. فيغطى صدره بالحجاب الخالد ويلقي بنفسه في الماء: “يغوص، ورأسه إلى الأمام، ويفتح كلتا يديه ويبدأ بالسباحة”. عندها يجد بوسيدون أنه يستطيع المغادرة مطمئنًا: إذ ليس لدى عوليس أي فرصة للبقاء على قيد الحياة.
ومع ذلك بقي يسبح لمدة يومين، نهارين وليلتين. وفي صباح اليوم الثالث، وصل إلى مكان قريب جدًا من الساحل، بيد أن قوة الأمواج التي ضربت صخور الساحل الحادة جعلت من الصعب عليه الوصول إلى اليابسة. ترميه موجة جديدة من البحار على الصخرة التي يتمسك بها ليجرح أصابعه. ثم تحمله أمواج عنيفة إلى البحر والطوف فوقه يغطيه (البيت 435: καлύπτειν، كاليبتين). تقرر أثينا [11] حينذاك مساعدته ليتمكن من جديد البدء بالسباحة مرة أخرى بحثًا عن شاطئ يسهل الوصول إليه. وعندما يرسو أخيرًا، يتخلص من حجاب ليوكوثيا ويرمي به إلى البحر مثلما طلبت منه الإلهة، لتعود وتأخذه (للحجاب). عندها بدا لـ عوليس أنه من الممكن أن يفكر في الراحة. يصنع سريرًا من أوراق الشجر الميتة ويغطي بها نفسه (البيت 491: καлύπτειν، كاليبتين). تستطيع أثينا أن تغلق جفنيها – وهذه المرة نجد الفعل ἀμφικακύπτειν (أمفيكاليبتين) الذي يُستخدم أيضًا فيما يتعلق بـ “حجاب الموت” (الإلياذة، النشيد السادس عشر، البيت 350)، وبشكل أعمّ، لكل ما يمكنه إخفاءه عن طريق التغطية.
لذلك فإن مشهد سباحة عوليس بأكمله يتميز بهذا الحجاب المنقذ الذي يلبس حول صدره، ويمنعه من أن تغطيه الموجة، أو على الأقل من الاختفاء فيها. لا يرمي نفسه في الماء إلا بهذا الحجاب، كما لو كان في حاجة إليه بشدة للسباحة، أي حتى لا يغطيه الماء بالكامل. فإذا وصل إلى الأرض صنع غطاءً من ورق وغشاه حجاب النوم.
في هذا المقطع القصير (أقل من مائتي بيت من النشيد الخامس) يظهر ضمنيًا موضوع يمتد عبر الأوديسة: تناوب الغطاء/ نزع الغطاء (كشف واكتشاف). يمكن فهم الرحلة التي يرويها عوليس لأهل فيشيا على أنها “اكتشاف” للبحر الأبيض المتوسط. لكن النصف الثاني من الملحمة بأكمله، الذي يروي عودته إلى إيثاكا، يتميز بخوفه من أن يتم اكتشافه وبالتالي اغتياله على يد الخاطبين الذين يفرضون حصارًا على بينيلوب. ولذلك فإنه يستر نفسه بحجاب يخفيه أولًا عن أهل فيشيا الذين يخشى أن يكتشفوا هويته، ثم عن خدمه المخلصين في جزيرته، ثم عن زوجته نفسها التي لا تتعرف عليه تحت حجابه. وهو لا ينزعه (يكشف عن نفسه) إلا في النهاية. بدأ الكتاب مع كاليبسو، المغطاة، الذي كان لا بد من مغادرتها وتركها وراءه. كان الابتعاد عن الغطاء بمثابة اكتشاف. لم يرغب عوليس في إنجاز كل هذه الرحلات التي حافظت على ذاكرته. فهو لم يكن في نيته اكتشاف العالم، بل فعل ذلك رغمًا عنه، من حجاب إلى نوع الحجاب. المشهد القصير الذي نقرأه عن طريقة سباحته هو تلخيص مكثف لهذا الموضوع.
هوامش:
(1) أو يوليسيس، أو أوديسيوس، لكن العرب القدامى أطلقوا عليه اسم عوليس الذي اتبعه هنا.
(2) الأوديسة (باليونانية ούνταξις): هي واحدة من ملحمتين إغريقيتين كبيرتين منسوبتين إلى هوميروس وهي جزئيًا تتمة لملحمة الإلياذة المنسوبة هي الأخرى إلى الشاعر الإغريقي الكبير. وتعد ركنًا رئيسًا للأدب الغربي الحديث، فهي ثاني أقدم عمل أدبي أنتجته الحضارة الغربية، بينما الإلياذة هي الأقدم. يعتقد العلماء أن الأوديسة أُلفت في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، في منطقة إيونيا اليونانية الساحلية في الأناضول.
(3) كاليبسو (باليونانية Καλυψώ، وتُلفظ Kalypsō): حورية في الأساطير اليونانية، وإحدى شخصيات الأوديسة، عاشت على جزيرة أوجيجا، واستبقت عوليس عندها لمدة سبعة أعوام.
(4) في الأساطير اليونانية، أهل فيشيا (Phéaciens)، (باليونانية القديمة οἱ Φαίακες / hoi Phaíakes، من φαιός / phaiós، “رمادي”)، هم شعب من البحارة، وصفهم هوميروس في النشيد السادس والسابع والثامن والثالث عشر من الأوديسة. وتحكي أشهر حادثة تتعلق بأهل فيشيا كيف أودعوا عوليس في إيثاكا؛ ولما استيقظ وجد كنوزهم إلى جانبه، فيعاقبهم بوسيدون (إله البحار والمحيطات) بتحجير سفينتهم وهم في طريق العودة إلى وطنهم.
(5) إيثاكا (Ιθάκη): جزيرة في كيفالونيا في اليونان. وهي الموطن الأسطوري لـ عوليس.
(6) هرمس (هو نفسه ميركور في الأسطورة الرومانية – من روما) وهو ابن زيوس – الذي هو أب جميع الآلهة – والحورية مايا. ينسب له الإغريق وظائف متعددة: فهو رسول زيوس والده ومرشد أرواح الموتى في الجحيم ورمز الرخاء بين البشر وحامي المسافرين والتجار واللصوص.
(7) الدب الأكبر هو ثالث أكبر كوكبة (مجموعة كواكب) في السماء من حيث حجمها، وهي تحتوي على “المقلاة الكبيرة” (أو “العربة الكبيرة”)، التي تُعد واحدة من أشهر التشكلات النجمية في نصف الكرة الشمالي. يشكل “الدب الأكبر” جزءا من قائمة الكواكب الـ 48 التي أنشأها بطليموس، ويمكن التعرف عليه بسهولة من خلال الشكل الشامل لنجومه السبعة الأكثر سطوعًا. الدب الأكبر عبارة عن كوكبة قطبية للمراقبين فوق خط عرض 41 درجة شمالًا: ولا يبدو أنها تغرب أبدًا. في اليونانية، كلمة الدب هي arktos، والتي أعطت اسمها (أركتيك) للقطب الشمالي (والمحيط المتجمد الشمالي).
(8) لوكوثيا Leucothée (Λευκόθεα / leukóthea، “الإلهة البيضاء”): هو اسم من الأساطير اليونانية. وهو يشير في الأصل إلى: • إينو، ابنة قدموس، حامية البحارة، بعد أن حولها بوسيدون إلى مخلوق بحري؛ • هاليا (Halia) وفق سكان جزيرة رودس اليونانية. • ابنة سيكنوس Cycnos (ابن بوسيدون)، المعروفة باسم هيميثيا.
(9) في الأساطير اليونانية، بينيلوب (عند هوميروس Πηνεκόπεια / Pênelópeia، وعند المؤلفين اللاحقين Πηνερόπη / Pênelópê)، ابنة إيكاريوس (ملك اسبارطة)، هي الزوجة المخلصة لعوليس وقد أنجبت منه ابنًا، تيليماخوس. ظهرت لأول مرة في الأوديسة، حيث تم تقديمها على أنها الزوجة المخلصة بامتياز. تقف في وجه الخاطبين الذين يريدون لها أن تتزوج من أحدهم مرة أخرى كي تحمي حياة ابنها. بعد عودة عوليس، تستخدم بينيلوب، الحذرة، الخداع للتأكد من أنه زوجها الحقيقي بالفعل. وتبقى هذه الرؤية للشخصية هي الأكثر تأثيرًا من بين الحكايات الأسطورية المختلفة الموجودة عند المؤلفين القدماء، اليونانيين ثم الرومان. في العصور اللاحقة (لتلك القديمة)، ظهرت بينيلوب بشكل متكرر في العديد من “سيناريوهات” إعادة كتابة الأوديسة وبشكل عام في التمثيلات الفنية المستوحاة من الأساطير المرتبطة بحرب طروادة.
(10) في الديانة اليونانية القديمة، هيرا أو هيري (في اليونانية القديمة Ἥρα / هيرا أو في الأيونية Ἥρη / هيري) هي واحدة من إلهات الأساطير اليونانية. تعتبر بمثابة كرونيد، (الكرونيدس في الأسطورة اليونانية هو الاسم الذي يطلق على أبناء الجبابرة كرونوس وأخته وزوجته ريا، وهم: هيستيا، وديميتر، وهيرا، وهاديس، وبوسيدون، وزيوس). هيرا هي حامية النساء وإلهة الزواج، وحارسة خصوبة الزوجين والنساء أثناء الولادة. تحتفظ العديد من التقاليد المتعلقة بها بعناصر الطبيعة الأصلية للإلهة باعتبارها التجسيد الأنثوي للموسم الجميل. تُقارن بــ جونو في الأساطير الرومانية.
(11) أثينا: إلهة في الديانة اليونانية القديمة، إلهة أوليمبوس (جبل الأولمب) الأساسية. يُطلق عليها أحيانًا اسم “أثينيه” أو “بالاس أثينا”. أما الرومان قد أطلقوا عليها اسم “مينرفا”. أثينا، ابنة زيوس وميتيس، وهي إلهة الحرب والحكمة والفكر والأسلحة.