1
مما بقي في الذاكرة من الحكايات: أن أحد الخلفاء أرسل موفدين منه إلى الأمصار لاستطلاع أحوال الرعية. وكان نصيب اثنين منهم أن تكون وجهتهما ولاية واحدة. وبعد عودتهما، استقبلهما الخليفة كلًّا على حدة ليسمع إفاداتهما.
قال الأول: كل شيء على ما يرام يا أمير المؤمنين، العبادات قائمة على قدم وساق، والخير وفير.
رد الخليفة: صدقت!
قال الثاني: يا أمير المؤمنين، لم أرَ إلا الفسق والفجور وعظائم الأمور، والعياذ بالله.
رد الخليفة: صدقت!
استغرب الوزير من ردود الخليفة، وقال: يا مولاي، قلتَ للأول “صدقت”، وقلتَ للثاني “صدقت”، رغم ما في كلاميهما من اختلاف بيِّن؟
أجاب الخليفة: يا وزير، كلٌّ يجد ما يبحث عنه. أما صاحب البصيرة، فينبغي أن يرى هذا وذاك معًا.
يصرّ الفقه السياسي–الثقافي المتلبرل، ومن خلفه ببغاوات “التريند” وملثمّو وسائل التواصل الاجتماعي من حسابات لقيطة مجهولة النسب، على نشر وإبراز كل ما يزيد من الشحن الطائفي والمناطقي في البلاد، وكأن لا وجود على هذه الأرض ولا في تاريخها وثقافتها إلا لهذا التنابذ، وهذا القرف الذي تعجّ به الميديا الرقمية.
لا يتورع هؤلاء حتى عن نشر وترويج ما تتفوه به ألسنة خصومهم الطائفيين المفترضين، لتبرير تموضعهم على الضفة الأخرى من المستنقع.
هذا النوع من الدعاية والتحريض – سواء أكان من صناعة مختبرات استخباراتية، أم نتيجة سذاجة وانسياق مع ما هو سائد ومهيمن – هو سعيٌ إلى تطبيع هذه الظاهرة الوافدة، وتوطينها، وفرضها كخطاب وحيد “يناسب المرحلة”… كذا!!
في مواجهة هذا الخواء، لا بدّ أن يبحث عقلاء سوريا عن من يشبههم، وأن ينظموا صفوفهم. لا بدّ من مبادرات على الأرض، من أجل تنظيف الجسد السوري من سمّ الطائفية والتعفن السياسي… فالفراغ هو المجال الذي تنتعش فيه كل تشوهات العقل.
2
من يغني في الطاحون
في الموروث الشعبي الشامي يُقال: (شو عم نغني بالطاحون؟) وتُقال لمن يسألك عن شيء بعد شرح مستفيض، أو لمن لا يهتم بما تقول.
يوم أمس، حاول أحد الأصدقاء أن يقنعني بألا “أغني في الطاحون”، قاصدًا الخطاب الذي يرفض السائد والمهيمن، ناصحًا إيايّ: “لا تعذب حالك، ما حدا راح يسمعك.”
هذا بالضبط ما تريده قوى الخراب، وهذا ما يسعون إليه: فرض اليأس والاستسلام أمام جبروت الواقع، وما يبدو على السطح من مظاهر، فـ”لا جدوى من الرفض”.
لكن ليست هذه المرة الأولى في التاريخ التي تحدث فيها زلازل جيوسياسية، ويتراكم فيها كل هذا الحطام الروحي والمادي، والفوضى، والضياع، وسوريا ليست البلاد الأول والأخير مع الاسف
مثل هذه المحطات – رغم كل قبحها – هي بدايات لمرحلة جديدة يُجرى فيها الفرز بين من يثق بحركة التاريخ، ومن لا يفعل، بين القادر على ابتكار الحلول، وبين المهزوم والمستسلم. هنا يُفرز من يمتلك قوة الإرادة، ومن “يغرق في فنجان مي”.
3
فدوى محمود
فدوى محمود: الاسم الذي لا تأتي على ذكره قنوات الدجل الطائفي، ويتجاهله “الثوار الطارئون”، وتريندات توجيه الرأي العام، إلا ما ندر.
هي النموذج الذي يكثّف مأساة سوريا والسوريين: “العلوية” التي تعتقل على يد أخيها ضابط الأمن، وهي زوجة طبيب قضى عمره بين الملاحقة والتخفي والاعتقال، حتى اعتُقل مجددًا في دمشق عام 2012، بينما كان يسعى لإيجاد مخرج آمن للأزمة، لتجنّب ما حدث ويحدث للبلاد. فدوى محمود هي أيضًا أم لمغيّب آخر: ماهر طحان. تكتب ضمن دعوة لوقفة تضامنية مع ضحايا الاختفاء القسري: “بدي اعرف وين ابني، رفيقتي، زوجي، بنتي، رفيقي، قبل ما أموت. ما بدنا نورّث هالقضية لأولادنا، بدنا نورّث وطن حر، عادل، معافى. كونوا معنا – 9 حزيران 2025”.
هذا الإصرار، بعد كل هذه المعاناة والألم الذي لا تقوى الجبال على حمله، من قِبل مَن يقبضون على الجمر – دون أي مساومة أو مهادنة على المبادئ – هو ما يميز الثائر الحقيقي.
النزعة الإنسانية المقترنة بوعي عميق، هي سِمة هذا النموذج الذي يرفض تحويل أنبل قضية إلى مجال للمتاجرة أو الارتزاق السياسي عبر التمويل المشبوه.
هذا الثبات هو النموذج الذي ينبغي أن يتصدّر المشهد، وأن يتحوّل إلى مدرسة للأجيال القادمة، تلك التي يقع على عاتقها بناء سوريا الجديدة، لا نموذج الطائفية، والزعرنة، والادعاء الثوري.
هذا النموذج هو أحد رهانات السوريين للخروج من عنق الزجاجة، إلى جانب “الأكاديمية الشعبية” في الحي، والقرية، والشارع، والجامعة، ومواقع العمل، بما فيها من طاقات كامنة، وقيم قائمة على روح الجماعة، والإحساس بالآخر، والشعور بالمسؤولية تجاه البلاد وناسها وثرواتها. من يعتمد على هذا النموذج، ويجيد التحدث بلغته، لن يشعر يومًا أنه “يغني في الطاحون” وسيردد التاريخ صدى صوته.
أما أسرى تريندات العالم الافتراضي، ووقائع اللحظة، ودجل النخب التي ظهرت على مزبلة الأزمة، وثوار الصدفة، وينتظر جهة ما أن يحل الأزمة عوضاً عنه، فمن الطبيعي أن يشعر بالخيبة، ويفقد الأمل.
عن موقع قاسيون