يجد أنصار أوكرانيا من الدول الغربية وحلف الناتو صعوبة متزايدة في دعم الدولة التي مزقتها الحرب “من أموالهم الخاصة”، وارتفعت أصوات زعماء ورؤساء حكومات تدعو للاستيلاء على الأصول الروسية لسد العجز؛ الأمر الذي أثار الكثير من الجدل لما يحمله هذا الطرح من تداعيات جيوسياسية وقانونية ومخاطر مالية على النظام العالمي… فما هي الأسئلة المفتوحة في ظل تأييد الولايات المتحدة وبريطانيا لهذه الفكرة؟ وهل يمكن أن يؤدي تحويل الأموال الروسية المقيّدة لأوكرانيا إلى إضعاف الكرملين ويمنح كييف البعض من الدعم والتعويض؟
كيف تجمّعت هذه الاصول
اعتبر المحامي الدولي رالف جانيك، خلال ندوة عُقدت أخيراً في جامعة فيينا، أنّ ما نشهده حالياً من مداولات لمثل هكذا خطوة سيشكّل سابقة، ومبيناً أنّ المناقشات ذات طبيعة سياسية أكثر منها قانونية. وشكّك جانيك في ما إذا كان المجتمع الدولي يقبل بمثل هذا الأمر، دون أن ينفي احتمالية حدوثه في المستقبل، وأنّه قد يصبح ممكناً الوصول والتصرف في الأصول الروسية، على الرغم من الحصانة والانتهاك الصارخ للقانون.
وبموجب عقوبات الاتحاد الأوروبي، تمّ تجميد ما يعادل أكثر من 200 مليار يورو من الأصول الروسية الخارجية. وفي ذات الوقت، دفعت أوروبا لروسيا ثمن شحنات المواد الخام وغيرها بالعملات المعتمدة في هذه الدول وليس بالروبل. ولمدة عامين، لم تتمكن موسكو تقريباً من أن تسحب احتياطاتها من أوروبا.
وأبرز جانيك، وفق ما نقل عنه موقع “ستاندرد أولانلاين” الإخباري، أنّه في حالة أوكرانيا تتمّ الآن مناقشة “حلول إبداعية”، وعلى سبيل المثال هناك اقتراح بعدم استخدام الأصول الروسية المجمّدة بشكل مباشر في إعادة الإعمار، بل استثمارها بشكل مربح، ويمكن بعد ذلك أن تتدفق العائدات المتأتية عن ذلك إلى أوكرانيا. وقد يكون من الممكن أيضاً الاعتراف بحكومة روسية في المنفى ونقل الأصول المجمّدة إليها، كما يحدث الآن في حالة أفغانستان.

ويشدّد جانيك على أنّ مثل هذه التصورات تحمّل المجتمع الدولي الكثير من الأعباء، لأنّ الأمر في غاية الحساسية؛ فأصول البنوك المركزية هي في الأساس ما يُسمّى بالموارد السياسية التي تغطيها الدولة، وبالتالي فهي محمية وبعيدة من متناول الدول الأخرى.
في المقابل، اعتبر الدكتور باتريك هاينمان في قراءة للمشهد، أنّ أصول الدولة الروسية “ليست مقدّسة” في القانون الدولي، ووفقاً لمبادئ القانون المذكور المتعلقة بمسؤولية الدولة؛ تدين روسيا لأوكرانيا بمبلغ أكبر من قيمة الاصول المجمّدة.
ووفق تقديرات البنك الدولي، فإنّ الأضرار فاقت قيمتها 400 مليار يورو. ويرى هاينمان أنّ “الحجج القانونية التي يتمّ تقديمها ضدّ مصادرة أصول المركزي الروسي ليست صالحة، ولا يوجد نص في القانون الدولي يحظّر مثل هذه الخطوة، وهذا أمر مهمّ لأنّ نقطة البداية تتلخّص بـ”مبدأ لوتس”، والذي بموجبه تقتصر خيارات العمل المتاحة للدول ذات السيادة بموجب القانون الدولي فقط على المحظورات الإيجابية التي يفرضها هذا المبدأ. ودول مجموعة السبع لن تكون بحاجة إلى تصريح مباشر بموجب المعاهدات والقوانين الدولية لاتخاذ مثل هذه الخطوة، ويكفي ألاّ يكون هناك حظر على تحويل الأموال الى أوكرانيا”.
وخلص هاينمان إلى أنّه يمكن “وضع الأخلاق فوق القانون، في ضوء الجرائم والإبادة الجماعية التي ترتكبها روسيا في أوكرانيا، وهي بحدّ ذاتها تشكّل انتهاكاً لعدد من الأحكام الأساسية للقانون الدولي”، بحسب تعليقه. وبالتالي يرى أنّه يتعيّن اتخاذ التدابير المضادة ومصادرة أموال المركزي الروسي، لاسيما وأنّ العقوبات أو “التدابير التقييدية” كما يُطلق عليها في لغة الاتحاد الأوروبي لم تفلح في إقناع أو إخضاع الجانب الروسي لوقف حربه العدوانية، وحتى التعويض عن الأضرار، وقد يشكّل هذا التدبير ورقة ضغط على موسكو حتى لا تستمر في حربها.

وحول أسس المعضلة القانونية للاستيلاء على احتياطات الدولة الروسية، بيّنت تقارير ألمانية أنّ محامين دوليين غربيين وضعوا أسساً قانونية لذلك، وفق إجراءات مضادة مبرّرة وضدّ انتهاكات موسكو الصارخة للقانون الدولي، مرتكزين في حججهم على سابقة في دولة العراق، التي وبعد هزيمتها في الكويت عام 1990 على يد التحالف الذي قادته الولايات المتحدة حينها، فُرض عليها دفع تعويضات… وتمّ دفع هذه التكاليف جزئياً من الاحتياطات العراقية.
وتلقى هذه الحجج الدعم من واشنطن ولندن. ووفق تقارير اقتصادية، فإنّ الجزء الأكبر من الأصول الروسية المجمّدة موجود في الولايات المتحدة وأوروبا.. ووفقاً للخزانة الأميركية، فقد جمّد الغرب ما يُقدّر بنحو 285 مليار يورو من الأصول الروسية.
مخاطر مالية عالمية
وبغياب الاتفاق على نهج مشترك بين الدول الغربية، واعتراض عدد منها على الإقدام على استخدام الأموال الروسية، والحديث عن مناقشات لتدابير بديلة لدعم أوكرانيا، رأى خبراء اقتصاد أنّه من المرجح أن تؤدي عملية الاستيلاء على الأموال الروسية إلى الحاق أضرار جسيمة بالثقة في الدول التي تشارك في ذلك، في الضمانات المالية الدولية والعملات الأساسية المتداول بها عالمياً، وهو ما سيخلق اضطرابات على مستقبل النظام المالي العالمي.
ويرى هؤلاء، أنّه يجب الأخذ في الحسبان أنّ ذلك التوجّه قد يقوّض وضع الثقة في المعاملات بالدولار الأميركي واليورو، وقد يتعرّض النظام المالي برمته لضربة خطيرة، ناهيك عن تداعياته وتأثيراته على العلاقات مع القوى الكبرى الأخرى مثل الصين. مع العلم، أنّه وبغياب تأكيدات شرعية وملاءمة هذا التوجّه، أعرب البنك المركزي الأوروبي عن خشيته بخصوص هكذا خطوة، ومحذّراً من الاستفادة من عائدات الأصول المقيّدة، والأهم أنّ ذلك سيزعزع الثقة بالعملة الأوروبية ويعرّضها لعدم الاستقرار.

حذر من ردّ الفعل
إلى جانب اللغط القانوني والمخاطر المالية، تُضاف المعضلة السياسية، لا سيما وأنّ الحصانة السيادية تُعتبر مبدأ من مبادئ القانون الدولي، والذي يتكفل بحماية أصول الدولة من مثل هكذا إجراءات، ولا يجوز لمحاكم دولةٍ ما، أن تحكم على تصرفات دولة أخرى، أو تستخدم أصولها لتنفيذ أحكام بحقها. وعند هذه النقطة تتباعد مصالح الدول الغربية حالياً، بينها ألمانيا وفرنسا المترددتان، فيما اعتبرت دول اخرى أنّ التدخّل الغربي قد يفقده صدقيته.
وفي الشأن الألماني، اعتبر مراقبون أنّ الحكومة لا ترغب على الأقل حتى الآن بتناول الفكرة، ويتمّ تقديم الحجج الاقتصادية والقانونية خلف أبواب مغلقة، ومن بين المخاوف أن تقوم دول أخرى بسحب رؤوس أموالها من منطقة اليورو خوفاً من المصادرة.
ومن جهة ثانية، هناك حجة اقتصادية أخرى تتمثل في المخاوف من قيام روسيا بالانتقام ومصادرة أصول الشركات الغربية. ومع ذلك، يجب طرح السؤال حول ما إذا كان ينبغي للسياسة الخارجية والأمنية الألمانية أن تنظر بجدّية إلى الشركات التي لا تزال تستثمر في روسيا بعد عامين من بدء الغزو الكامل.
وعن الإشكالية الدستورية لهذه الخطوة في المانيا، أفاد الدكتور هاينمان، أنّ القانون الالماني لا يمنع مصادرة الأصول الروسية الموجودة في البلاد، والقرار الرئيسي مرتبط بالسياسة الخارجية، حيث يتطلّب الأمر إقرار قانون في البرلمان الاتحادي بذلك ليُنفّذ ذاتياً، بحيث لا تكون هناك حاجة إلى إجراءات إدارية موقتة أخرى يمكن من خلالها للدولة الروسية وبنكها المركزي أن يلجأوا إلى المحاكم الإدارية الألمانية للحصول على الحماية القانونية.
قبل أن يلفت هاينمان إلى أنّ هكذا قانون لا يصبّ في مصالح أوكرانيا فحسب، بل ويخدم أيضاً المصالح الألمانية، فإذا ما انهارت أوكرانيا فإنّ التكاليف التي ستتحمّلها أوروبا وبالأخص برلين، سوف تكون كارثية في كافة النواحي.