ليس واضحاً ما إذا كانت ألمانيا تواجه في الآونة الأخيرة سوء حظّ أو سوء إدارة. لكنّ ما اختبرته برلين خلال الأسبوع الماضي محرج إلى حدّ كبير على الساحة الدوليّة. بدأ الأمر في 26 شباط (فبراير)، حين لمّح المستشار الألمانيّ أولاف شولتس إلى أنّ قوّات بريطانيّة وفرنسيّة كانت توفّر بيانات داعمة لأوكرانيا من أجل ضرب أهداف روسيّة. كان شولتس يردّ على الضغوط المتزايدة لمدّ كييف بصواريخ “تاوروس” الألمانيّة، فرفض ذلك على قاعدة أنّ الجيش الألمانيّ سيضطرّ إلى تقديم الإرشادات للأوكرانيّين على الأرض، ما يعرّضه للردّ الروسيّ.
في اليوم التالي، كادت البحريّة الألمانيّة تصيب عن طريق الخطأ مسيّرة أميركيّة من طراز “أم-كيو 9 ريبر” فوق مياه البحر الأحمر. كانت السفينة الحربيّة “هيسين” تشارك في “تحالف حارس الازدهار” حين اشتبهت بمسيّرة “معادية” فأطلقت صاروخين ضدّها. من حسن حظّ الأميركيّين أنّهما أخطآ المسيّرة التي تكلّف ملايين الدولارات.
يوم الجمعة، كشف تحقيق متعدّد الجهود لمنصّات “إنسايدر” و”دير شبيغل” و”زد دي أف” و”دير ستاندارد” كيف أنّ يان مارشالك، المسؤول التنفيذيّ السابق لشركة “وايركارد” للخدمات الماليّة والتي حُلّت بسبب أكبر عمليّة غسل أموال في تاريخ ألمانيا، كان عميلاً لدى الاستخبارات الروسيّة منذ فترة طويلة. ومارشالك ليس حالة فريدة في سجلّ الجواسيس الروس الذين عملوا متخفّين في ألمانيا. على أيّ حال، لم يكن الإحراج الألمانيّ قد وصل إلى ذروته بعد.
يوم الجمعة أيضاً، سرّب الإعلام الروسيّ تسجيلات لأربعة من كبار قادة الجيش الألمانيّ، بمن فيهم قائد القوّات الجوّيّة إينغو غيرهارتز، وهم يناقشون عدد الصواريخ الواجب إطلاقها ضدّ جسر كيرتش من أجل تدميره (تراوحت التقديرات بين 10 و20 صاروخاً). ناقش المجتمعون أيضاً تفاصيل دقيقة عن كيفيّة عمل الحلفاء على مساعدة أوكرانيا في شؤون حربيّة عدّة، من بينها تسليم بريطانيا بيانات إلى فرنسا لمساعدة الأوكرانيّين على برمجة صواريخ “سكالب” و”ستورم شادو” التي استخدمتها كييف بفاعليّة تدميريّة كبيرة ضدّ أهداف روسيّة. بلغت المكالمة المسرّبة نحو 38 دقيقة.
هذا ما قاله جاسوسٌ بريطانيّ قبل 36 عاماً
يبدو أنّ القادة استخدموا منصّة اتّصال معياريّة غير آمنة (ويبيكس) لتبادل المعلومات، ما أثار غضب بعض الحلفاء. قال وزير الدفاع البريطانيّ السابق بن والاس إنّ الحادث بيّن كيف أنّ ألمانيا “ليست آمنة ولا يمكن الاعتماد عليها”.
في الواقع، يظهر أنّ الخرق كان بسيطاً إلى حدّ مذهل. يوم الأحد، قال العضو في لجنة الاستخبارات الألمانيّة رودريخ كيزويتر إنّ مستمعاً غير مصرّح له دخل إلى المحادثة ولم يلاحظه الضباط الآخرون.
كان الغضب البريطانيّ واضحاً بالرغم من محاولة رئيس الوزراء البريطانيّ ريشي سوناك لملمة الوضع. في مقالة نشرتها صحيفة “دايلي مايل”، ذكر الكاتب البريطانيّ إدوارد لوكاس حادثة معبّرة حين كان مراسلاً في برلين الغربيّة سنة 1988. حينها، أتى جاسوس بريطانيّ وأعطاه لمحة عن وضع الاستخبارات الألمانيّة. قال الجاسوس بحسب لوكاس: “إذا أردْتَ أن يأخذ الكرملين أمراً ما بجدّية، فأعطِه للألمان وقل لهم إنّه سرّ. سيكون على كلّ مَقْرأ للمكتب السياسيّ (السوفياتيّ) في اليوم التالي”. يرى لوكاس أنّ القليل تغيّر منذ تلك الفترة.
العقيد البريطانيّ المتقاعد ريتشارد كمب كتب أيضاً في صحيفة “دايلي تيليغراف” أنّه كان من الوهم الاعتقاد بأنّ ألمانيا تغيّرت، متسائلاً عمّا إذا كانت علاقة برلين مع موسكو أهمّ من علاقتها مع لندن. وشدّد على ضرورة الحفاظ معها على مسافة واضحة في الأمن والسياسة الخارجيّة.
“رأس جبل الجليد”
ليس كلّ الألمان سعداء بسياسة المستشار. على سبيل المثال، استغرب غيرهارتز، قائد القوّات الجويّة الألمانيّة الذي تسرّبت مكالمته إلى الإعلام الروسيّ، الأسباب التي يستعرضها شولتس من أجل منع نقل الصواريخ إلى أوكرانيا. “لا أحد يعلم حقاً لماذا يحظّر المستشار” إرسال “تاوروس” إلى كييف. وقال النائب عن حزب “الخضر” الحليف للمستشار أنطون هوفرايتر إنّ شولتس “لم يكن يقول الحقيقة البديهيّة” حين تحدّث عن ضرورة نقل جنود ألمان إلى أوكرانيا لتقديم الدعم البيانيّ. وذكر أنّ ألمانيا حوّلت 260 صاروخاً من هذا الطراز إلى كوريا الجنوبيّة من دون نقل هذا الدعم.
السبب المرجّح لعدم نقل ألمانيا صواريخ “تاوروس” إلى أوكرانيا هو مداها البعيد الذي يمكّن كييف من قصف موسكو. ويقول شولتس إنّ بلاده، بصفتها أكبر مانح عسكريّ لأوكرانيا في العالم بعد الولايات المتحدة، تتمتّع بحق “قول نعم، لكن أيضاً أحياناً، (حقّ قول) ‘ليس هذه المرّة‘”. ويواجه شولتس أيضاً على الصعيد الشعبيّ رفضاً كبيراً لدعم أوكرانيا بهذا النوع من الصواريخ. وجد استطلاع رأي لشركة “يوغوف” بتفويض من “وكالة الصحافة الألمانيّة” وأجري بين 1 و5 آذار (مارس) أنّ 72 في المئة من الألمان كانوا موافقين على رفض شولتس الأخير نقل هذه الصواريخ إلى أوكرانيا.
في ما يخصّ التسريب الأخير، قال الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الخارجيّة في ألمانيا “بي أن دي” أوغوست هانينغ في حديث إلى صحيفة “بيلد” الألمانيّة، إنّ هذا التسريب قد يكون “مجرّد رأس جبل الجليد”، معرباً عن مخاوفه من أن تكون روسيا قد حصلت على المزيد من أسرار الناتو.
بوتين سعيد… لكنّه ليس وحده
أعرب الرئيس الأسبق للجنة الدفاع في مجلس العموم البريطانيّ توبياس إلوود عن اعتقاده بأنّ الروس سرّبوا المكالمة من أجل زرع الشقاق بين الجيش وشولتس الذي يعاني انخفاضاً في شعبيّته.
لكن يبدو أنّ الهدف أيضاً هو توسيع الانقسامات بين ألمانيا وحلفائها في وقت حسّاس بالنسبة إلى أوروبا، مع امتلاك روسيا اليد العليا في الحرب، وعلى مشارف انتخابات رئاسيّة أميركيّة قد تعيد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. قال والاس، وزير الدفاع البريطانيّ السابق: “بالنسبة إلى أمن أوروبا، إنّه (شولتس) الرجل الخطأ، في المنصب الخطأ والتوقيت الخطأ”.
لا يعني هذا أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين هو الشخصيّة الأجنبيّة الوحيدة المسرورة بما يحدث في ألمانيا. في وقت تبدو برلين عاجزة عن حماية أمن حلفائها وأسرارهم، قبل الحديث عن اتّخاذ موقف متشدّد من روسيا، يبدو الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون أكبر المستفيدين من الفوضى في ألمانيا. بطريقة غير مقصودة، خدمت برلين سرديّة باريس بسرعة أكبر ممّا حلم بها ماكرون نفسه قبل أقلّ من أسبوعين. كيف سيلملم شولتس تداعيات هذه الحادثة أمر قيد المراقبة. لكنّ مهمّته شاقّة بالتأكيد.