لعب الأكراد دوراً مؤثراً وثقيلاً في ترسيخ العملية السياسية التي قام عليها نظام المحاصصة في العراق. ذلك النظام الذي فرضه المحتل الأميركي من أجل أن تكون للأحزاب الشيعية الغلبة في السلطة. وإلى ما قبل إجراء عملية استفتاء الانفصال المشؤوم الذي دعا إليه رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني مسعود البرزاني عام 2017 كان الأكراد وثيقي الصلة بالأحزاب الشيعية التي كانت تستعملهم باعتبارهم بيضة القبان في محاولة إزاحة الخصوم السنة وتقزيمهم والتقليل من خطر امتناعهم عن المشاركة الايجابية. كانت هناك تفاهمات شيعية كردية قائمة على قاعدة تبادل المنافع. ففي كل الأحوال كان الأكراد هم الرابحون بغض النظر عن مستوى تلك التفاهمات التي حتى لو انخفضت فإن حصتهم في الحكومة العراقية ومجلس النواب والمحكمة الاتحادية ناهيك عن ثروات العراق لم تُمس. فالأكراد يديرون شؤونهم من غير العودة إلى حكومة بغداد التي لا تملك حتى حق الاستشارة. لهم حكومتهم برئيس ومجلسي وزراء ونواب وقضاء مستقل وعلم إضافة إلى أن هناك دولاً كبرى سمحت لهم بإقامة سفارات على أراضيها. الأدهى من ذلك أن الأكراد صاروا يصدرون نفط أراضيهم عن طريق تركيا من غير أن يسلموا عائداته إلى البنك المركزي العراقي.
استقرار زائف وسط أزمة مستمرة
بدهاء لا حدود له استغل الأكراد الفوضى التي سببها دخول الطرفين (الشيعي والسني) في صراع عقائدي لم يكن في حقيقته إلا انعكاساً لطريقتين مختلفتين في النظر إلى صورة العراق من خلال نظامه السياسي. صورة العرق الإيراني وصورة العراق العربي. وليس من المبالغة القول إن الزعامات الكردية تمنت لو أن زمن ذلك الصراع يطول. فهي مستفيدة منه على مستوى إدامة مكتسباتها ولكن الأساس يكمن في أن تلك الفوضى تُظهر تفوق الأكراد وقد حققوا استقراراً في إقليمهم الآمن. تاريخياً فإن الحزبين (الاتحاد الوطني الكردستاني والديموقراطي الكردستاني) كانا على خلاف دائم وفي صراع دموي متقطع منذ ولاية زعيمهما التاريخيين “جلال الطالباني وملا مصطفى البرزاني”. ولو لم يغث صدام حسين مسعود البرزاني عام 1996 وكانت أربيل على وشك السقوط بأيدي مقاتلي حزب الاتحاد الكردستاني لما كان للحزب الديموقراطي الكردستاني وجود اليوم. وإذا ما كان الصراع بين الحزبين قد اتخذ في الماضي طابعاً عقائديا ملفقاً فيه الكثير من النفاق فإنه اليوم يقوم على تضارب المصالح.
زوال الحاجة إلى الحليف الكردي
إذا ما عدنا إلى الخريطة السياسية في العراق لابد أن نلاحظ أن أحزاب الحكم الشيعية لم تعد اليوم في حاجة إلى الحليف الكردي لتتمكن من الانتصار على الخصم السني. لقد انتهى الزمان الذي كان فيه ذلك الخصم يتصرف بناء على دوافع عقائدية. صار ممثلو ما يُسمى بالسنة العرب مجرد مقاولين ورجال أعمال. وهو ما أنهى الحاجة إلى الفريق الكردي باعتباره بيضة القبان. فليس هناك قبان لكي تكون هناك بيضة. منذ سقوط نوري المالكي وتولي حيدر العبادي عام 2014 فتحت بغداد عينيها على الهدر المالي االذي يمثله الإنفاق على الإقليم الكردي بأسلوب المحاصصة. شكل ذلك الوعي انتقالة سلبية مهمة في العلاقة بين الطرفين الشيعي والكردي. غير أن الخطر الذي كان يمثله تيار الصدر وهو من داخل البيت الشيعي جعل الأحزاب الحاكمة في بغداد ترجئ حسم الكثير من الملفات العالقة إلى اللحظة المناسبة. كان هناك ما يكفي من التوترات بين الجانبين كما حدث حين منعت المحكمة الاتحادية حكومة الإقليم من إقرار قانون النفط لكي يتم التوقع بأن الأزمة ذاهبة إلى الانفجار من غير أن تلجأ بغداد إلى مساءلة حليفها الكردي عن طريقة تصرفه بحصته من الميزانية العراقية. وبعد انسحاب الصدر من العملية السياسية عام 2022 زال الشعور بالخطر وأصبحت الأحزاب الشيعية مهيمنة بشكل كامل على الدولة مع التركيز على الإدارات العاملة في كردستان وشؤون موظفيها وبالأخص على المستوى المالي.
العلاقة وقد انتهت إلى “كسر عظم”
وإذا كان مبدأ “الشفافية” قد تم تغييبه عبر العشرين سنة السابقة مما أتاح للأوضاع الشاذة في الإقليم الكردي أن تتحول إلى قاعدة، فإن العودة إلى ذلك المبدأ تتطلب قرارات هي أشبه بـ”كسر عظم” في العلاقة بين بغداد وأربيل. وهو ما حاول الطرف الكردي أن يؤكده حين قرر الحزب الديموقراطي الكردستاني، وهو الحزب الحاكم في أربيل، مقاطعة الانتخابات، ولوح بالانسحاب من مؤسسات الدولة الاتحادية بعدما أصدرت المحكمة الاتحادية قراراً يتعلق بطريقة صرف رواتب موظفي الإقليم عن طريق مصارف عراقية بدل تحويلها إلى حكومة أربيل. ظاهرياً فإن ذلك القرار قد انطلق من فكرة كون موظفي الإقليم موظفين في الدولة العراقية وهي فكرة صحيحة، غير أنه في الجوهر يهدف إلى إنهاء الوضع الشاذ والعودة إلى مبدأ الشفافية. ذلك ما أشعر الحزب الحاكم في الإقليم بأنه قد جُرد من (حق) التصرف بحصة الإقليم المالية حسب ما يقرره. وهو سيفقده امتيازاً كان هو السبب الذي يقف وراء تراكم ثروات زعمائه الموزعة بين المصارف العالمية. في مقابل تلك الخسارة، فإن الواقع السياسي داخل الإقليم ينكر جدية تهديد الحزب الديمقوراطي بالإنسحاب من مؤسسات الدولة الاتحادية. فذلك الإنسحاب هو ما ينتظره خصمه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بفارغ الصبر. ومن المؤكد أن حكومة بغداد وهي تستعيد زمام المبادرة في التصرف بالميزانية الاتحادية في سياق القانون، كانت على بينة من أن الوضع السياسي المتأزم داخل الإقليم سيمنع زعماءه من اتخاذ قرارات متهورة.