مراسم تنصيب بوتين رئيساً لروسيا للمرة الخامسة منذ العام 1999، جرت الثلاثاء في السابع من الجاري في إحدى قاعات الكرملين التاريخية. بعد إنتهاء المراسم وإلقاء بوتين خطاباً كتبه بنفسه، إنتقل إلى كنيسة الكرملين لينال بركة صديقه كيريل، بطريرك كنيسة “موسكو وسائر روسيا” الأرثوذوكسية، الذي تمنى له رئاسة مدى الحياة. إلى جانب ممثلي الدول “اصدقاء روسيا”، لم يحضر حفل التنصيب سوى 4 ممثلين من الدول المدرجة على قائمة “الدول غير الصديقة” التي تضم 64 دولة من دول “الغرب الجماعي الذي تخوض روسيا بوتين ضده حرب وجود في سهوب أوكرانيا.
الإنتخابات الرئاسية التي فاز فيها بوتين بنسبة أصوات تحاكي أفضل تقاليد الديكتاتوريات الإفريقية والشرق أوسطية، حيث تخطت 87%. وقد طعن “الغرب الجماعي” بنزاهتها وديموقراطيتها، ولم يسمح بالترشح لمنصب الرئاسة سوى لثلاثة ممثلين لأحزاب النظام، شكلوا ديكوراً إنتخابياً فاشلاً. البرلمان الأوروبي صوت الشهر المنصرم على قرار يعتبر بوتين رئيساً غير شرعي، ويدعو إلى عدم التعامل معه كرئيس لروسيا. القرار ليس إلزامياً، بل ترك لسلطات كل بلد حرية الإلتزام به، فحضر المراسم 4 سفراء دول أوروبية ـــ فرنسا، هنغاريا، اليونان ومالطا.
صادف يوم تنصيب بوتين قبل يومين من إحتفال روسيا بيوم النصر على ألمانيا النازية في 9 ايار/مايو من كل سنة. الغرب لا يحتفل باستسلام الجنرالات الألمان إلا في سنوات اليوبيل، وليس في التاسع من الشهر، بل في الثامن منه. ويخوض بوتين منذ سنوات معركة قاسية ضد ما يسميه تشويه الغرب لتاريخ الحرب العالمية الثانية، بل وتاريخ روسيا ككل. ولذلك ركز في كلمته التي ألقاها في إحتفال تنصيبه على أهمية الحفاظ على تاريخ روسيا وعاداتها المتوارثة منذ أن تشكلت كدولة. وكان أول عمل قام به في اليوم التالي لتنصيبه، توقيع مرسوم تحتكر الدولة بموجبه سردية تاريخ روسيا، ويلزم مؤسسات التعليم بمختلف مستوياته على اعتماد كتاب تاريخ تضعه لجنة رسمية تتشكل لهذه الغاية.
موقع Kasparov المعارض نشر أكثر من نص بمناسبة تنصيب بوتين، وجمع في أحدها عدداً من مدونات الناشطين الساسيين.
كتب أحدهم يقول بأن “الرئيس الجديد” سيقوم الآن بتصحيح كل أخطاء “الرئيس القديم” ويفرض النظام. وتوقع أن تكون زيارة بوتين الأولى إلى الصين.
مدون آخر رأى أن من أهم لحظات مراسم التنصيب ـــ مقارنة بطريرك روسيا كيريل بوتين بأحد أهم شخصيات التاريخ الروسي القديم الذي حقق “إستقلال روسيا عن الغرب الكاثوليكي”، ويحتل في وجدان الروس مرتبة تقرب من القداسة. ويقول المدون ساخراً أنه بعد هذه المقارنة أصبح بوسعنا الآن أن نقول للأطفال في المدارس أن بوتين هو مسيح الله القدوس والمخلص. وهو أكثر من مجرد رئيس – إنه قيصر! ويضيف بأن يوليا نافالنايا، أرملة زعيم المعارضة المغدور ألكسي نافالني، تقول بأن “بلادنا” يحكمها كاذب، لص وقاتل. “فمن نصدق، هي أم البطريرك. من جهتي أعتبر نافالنايا هي الصادقة”.
معظم المدونين تناول أمنية البطريرك كيريل أن يحكم بوتين مدى الحياة. فقال أحدهم أن بوتين يحكم منذ 25 سنة، ويستعد ليحكم ليس ست سنوات أخرى، بل حتى القبر. وبعد موته سيترك مكانه “غولاً ما”.
أحدهم رأى أن اكثر ما يثير الإهتمام في كلمة بوتين خلال حفل تنصيبه، كان الإغفال. فما أراد بوتين قوله قاله عنه آخرون. وتلك هي الطريقة المفضلة لديه لإيصال أفكاره إلى المستمع: يقول شيئاً، ويفعل عكسه تماماً. تضمنت هذه الطبعة من خطاب التنصيب صيغة محبة للسلام بشان الغرب: “نحن نستعدون، الباب مشرع، والكلمة لهم، لكن قطارنا المدرع يقف على السكة مستعداً”.
موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله DW جمع تعليقات كتّاب في كبريات الصحف الألمانية على خطاب بوتين في احتفال تنصيبه. فقد نقل عن صحيفة Die Welt أنها عنونت نصها بالقول “روسيا بوتين 2024 ــــ مشهد محبط”، ورحبت بقرار الحكومة الألمانية عدم إرسال ممثل لها إلى احتفال تنصيب بوتين. قال معلق الصحيفة بأن الرغبة في السلام والتفاهم مع روسيا لا تزال قائمة، “لكنها الآن تقوم على الخوف، وليس على السذاجة العمياء. وهذا تقدم واضح”. وأضاف بأن التفاهم المتبادل مستحيل مع مثل هذا “الحاكم طويل الأمد” في السلطة. ورأى أن بوتين نجح بسهولة في تحويل “النظام الديموقراطي” في روسيا التسعينات، والذي كان يعشش فيه الفساد وعدم سيادة القانون، أولاً إلى حكم إستبدادي، ومن ثم إلى ديكتاتورية. وقال بأن بوتين أعاد إحياء الحرب الباردة، ومن ثم حولها إلى مرحلة ساخنة بشن حرب عدوانية على الغرب باستخدام التهديدات النووية.
محرر في القسم السياسي في صحيفةFrankfurter Allgemeine Zeitung عنون نصه بالقول ” لم يعد أمام بوتين أي مستقبل يقدمه للروس”. ولاحظ تغيراً في خطاب بوتين خلال احتفال تنصيبه بالمقارنة مع خطاب التنصيب السابق. فمنذ ست سنوات وعد بوتين الروس بمستقبل “سلمي مزدهر”، مع “نوعية جديدة من الحياة والرخاء والأمن والصحة للجميع” و”سياسة إجتماعية حديثة”. في بداية رئاسته الجديدة، لم يعد حتى يتظاهر بأن نظامه في خدمة الشعب. ورأى المحرر أن خطاب بوتين في حفل تنصيبه الرسمي لم يتضمن جديداً سوى “الردح الوطني الفارغ”.
التغير الجديد في الخطاب يؤكد تغيير سياسة حكم الرئيس الروسي. فالنظام الإستبدادي الذي وعد مواطنيه بحياة أفضل، تحول إلى ديكتاتورية، ولم يعد لديه مستقبل يعد به الروس. الأمر الوحيد الذي بقي لدى بوتين ـــ رسائل من الماضي المظلم. لكنه لا يزال يعثر في هذا الماضي على الدعم من المجتمع الروسي، في الوقت الذي يدمّر فيه جيشه أوكرانيا.
صحافية في الأسبوعية Der Spiegel عنونت نصها بالتساؤل عن “الرسائل التي تضمنها “خطاب العرش” لبوتين”. ورأت أن إحتفال التنصيب، كما كل إحتفالات الكرملين، درست كل تفاصيله بعناية. وقالت بأنه يمكن بلورة ثلاثة إستنتاجات من الخطاب.
أول الإستنتاجات ــــ ولاية بوتين الرئاسية الخامسة تتمحور كلياً على الحرب. فقد دُعي لحضور الإحتفال الكثيرون من العسكريين المشاركين في الحرب ضد أوكرانيا. وبدا بوتين مثيراً للشفقة في خطابه وهو يقول بأنه ينحني أمام هؤلاء “الأبطال”. وقد أخضع منذ زمن طويل كل جهازه وسياسته والإقتصاد لمتطلبات الحرب ضد اوكرانيا، وهو سيستمر على هذه الطريق.
الثاني رأته الصحافية في رغبة بوتين التأكيد على إخلاص محيطه له. فقد صفق ل”الرئيس الجديد القديم” 2500 شخص من المشاركين الذين تم إختيارهم بعناية ــــ نخبة روسيا المتدينة، السياسية، الإقتصادية والإجتماعية. كما تمت دعوة الذين يعملون منذ زمن بعيد مع بوتين والمخلصين له ــــ من وزير الدفاع سيرغي شويغو ووزير الخارجية سيرغي لافروف إلى سكرتير مجلس الأمن القومي نيكولاي باتروشيف ورئيس بلدية موسكو سيرغي سوبيانين، وقد عرضهم شريط فيديو حفل التنصيب عن قرب. كما عرض شريط الفيديو حكام المناطق الأوكرانية المحتلة.
الإستنتاج الثالث الذي رأته الصحافية الألمانية ــــ الكنيسة الروسية تنظر إلى بوتين كوريث للقيصر. وقالت أن بوتين يعتمد أكثر فأكثر على الكنيسة في إيصال ما يريده إلى الروس. فهو يستغل الكنيسة والدين أكثر فأكثر لبلوغ أهدافه. بطريرك الكنيسة الروسية يدعم بشدة هجوم روسيا على اوكرانيا ويصفها ب”الحرب المقدسة”.