ملخص
لعل الحدث السينمائي الكبير الذي شهده مهرجان “كان” غداة انطلاقه، عرض جزء من تحفة المخرج الاميركي أبيل غانس “نابليون”، الفيلم الملحمي الذي تم ترميمه بعد تصويره عام 1927 واختفائه. النسخة المرممة من الفيلم تقدم نموذجاً سينمائياً فريداً لم تشهد السينما ما يماثله.
في الوقت الذي بدأ الجميع يستعد لمعاينة الأفلام الحديثة المشاركة في كافة فقرات مهرجان “كان” السينمائي (14 – 25 مايو/ أيار)، اجتمعت شلّة من عشّاق السينما داخل صالة “دوبوسي”، قبيل حفلة الافتتاح ببضع ساعات، لمشاهدة النسخة المرمّمة والنهائية من “نابليون” (1927) للمخرج الفرنسي أبيل غانس، تحفة السينما الصامتة التي افتتحت “كلاسيكيات كان”، القسم المخصص للأفلام القديمة المرممة، ومعظمها كما يشير اليه العنوان، من الأعمال الخالدة التي دخلت تاريخ الفن السابع من بوابته العريضة.
وقد حضر العرض المخرج الفرنسي اليوناني الشهير كوستا غافراس بصفته رئيس السينماتيك الفرنسية، بصحبة مديرها فريديريك بونو. مع التوضيح أن ما عُرض في “كان” ليس سوى الجزء الأول من الملحمة وتبلغ مدته ثلاث ساعات وأربعين دقيقة، على أن يتم عرض الجزءين على يومين متتاليين، في الرابع والخامس من يوليو (تموز) المقبل، في واحدة من أضخم الصالات في باريس، مع موسيقى حيّة بقيادة الأوركسترا الوطنية الفرنسية. وسيكون الفيلم متوافراً كذلك على “نتفليكس”، بعد عرضه في الصالات التجارية.
الفيلم عن مسيرة نابليون من 1781 إلى 1796. ناقد إيطالي قال لي بدهشة وهو يخرج من العرض: “بعد مشاهدة هذا الفيلم، أستطيع العودة إلى منزلي، يا إلهي لقد اكتفيتُ!”. وفعلاً، الفيلم، يبعث داخل المُشاهد نشوة يرافقها سؤال ملح: كيف استطاع أبيل غانس (1889 – 1981) أن يفهم ماهية السينما بهذا القدر من الدقّة قبل نحو 100 عام وهو لا يزال في الثلاثين من عمره، إلى درجة أن عمله هذا لا يزال ذا سطوة فنية وصدمة جمالية لا تُضاهى. عدد غير قليل من الأفلام تناول ظاهرة نابليون، نشأته وحروبه وملاحمه العسكرية، لكن ما من واحد اقترب إلى عظمة فيلم غانس وطليعيته على مستوى اللغة السينمائية.
العام الماضي، قرر المخرج البريطاني ريدلي سكوت تخصيص نسخة جديدة لسيرة القائد الفرنسي، بطولة واكين فينيكس، لكن نظرته جاءت قاصرة واختزالية، فاتهمته الصحافة الفرنسية بالتحايل على التاريخ والافتقار للدقة. بالقرب من مكان سكني في مدينة “كان”، حيّ يتصّدره عمود على رأسه لوحة يمكن أن نقرأ عليها: “عند عودته من جزيرة إلبا، قضى نابليون يوم الثاني من مارس (آذار) 1815 في هذا المكان”. أغلب الظن أن الشوارع في فرنسا تعرف تاريخ بونابارت أكثر من ريدل
اللغة السينمائية الفريدة (ملف الفيلم)
إخراج ملحمة غانس من غياهب الماضي استغرق 16 عاماً وبلغت كلفته أربعة ملايين يورو. وتقول المكتبة السينمائية الفرنسية التي تولّت المشروع، من دون أي حاجة إلى التظاهر بتواضع مزيف، أن “إعادة تشييد” الفيلم تُعد أهم بل وأضخم عملية ترميم شهدها فيلم في تاريخ السينما. فهذه النسخة غير كل النسخ التي كانت متداولة إلى الآن، بل هي النسخة الكاملة والنهائية، كما أراد صاحبها النابغة قبل قرن، وبرؤيته وطموحه.
مدير المكتبة السينمائية الفرنسية فريدريك بونو يروي مراحل ترميم الفيلم: “كنا نعلم بوجود نسخة من الفيلم تحمل تسمية “أبولو”، على اسم الصالة الباريسية التي عرض فيها غانس فيلمه، والذي بلغ طوله آنذاك 9 ساعات ونصف الساعة. ثم عمل على نسخة أخرى خاصة بالشخصيات الرسمية ورئيس الجمهورية وأوبرا باريس، بلغت مدتها 11 ساعة و44 دقيقة، وسميت بـ”الأوبرا”. من نسخة “أبولو”، اقتطع ما يلزم للوصول إلى نسخة مدّتها سبع ساعات، تُعرف باسم “النسخة الكبرى”. لا أحد كان شهد هذه النسخة منذ عام 1927. أكرر: لا أحد. إذ يجب أن نفهم أن “نابليون” فيلم من دون نيغاتيف. مدينة نانت ارتكبت خطأ لا يُغتفَر، وهو انها أرسلت النيغاتيف إلى أميركا لعرضه تجارياً، ولم يعد من هناك. لذلك قمنا بتكليف خبير تقييم لمعرفة ما إذا كان لدينا العناصر اللازمة، بما في ذلك مخطوطات أبيل غانس، لتركيب هذه “النسخة الكبرى”، وذلك بعد قرن من الترميمات الرديئة إلى حد ما، وبهدف تحقيق ما يتوافق مع رغبات غانس”.
فكرة اعادة “نابليون” إلى الحياة جعلت السينماتيك الفرنسية تشرع في عمل ضخمة. يروي بونو تفاصيلها: “قمنا بجرد جميع الصناديق التي تحتوي على أجزاء من الفيلم في فرنسا، ثم بحثنا في الأرشيف والمحفوظات حول العالم. كنّا في حاجة إلى “حجر رشيد” لفك رموز هذه المخطوطات، واحتجنا وقتاً طويلاً حتى ندرك أن ماري أبشتاين، التي عملت مع غانس وهنري لانغلوا (أحد مؤسسي السينماتيك الفرنسية) في الستينيات، قد وضعت تسلسلاً مفصلاً للغاية لـ”النسخة الكبرى”. كان لدينا “رب العمل”، كما يقولون في مجال الخياطة، ومذ ذاك أصبحت الأمور ممكنة. أصبح في تصرفنا كلّ شيء تقريباً، من دون ترتيب معين، وبتنا نعرف ما أراد أبيل غانس إنجازه. ثم كان علينا أن نجد آلة لتسوية كل شيء، لتجنّب الانتقال من لقطة إلى أخرى بطريقة عشوائية. مختبر “إكلير” كان عمل على تطوير مسح ضوئي، فبدأنا باستخدامه، لكن سرعان ما أعلن أفلاسه، ممّا أدى إلى إبطاء العمل. لكنّ الأهم أننا كنّا وجدنا الأجزاء المفقودة، وتلك كانت المعجزة. إذاً، ليست هذه عملية ترميم عادية، إنما إعادة تشييد فيلم لم يشاهده أحد منذ قرن”.
هل بإمكان مخرجة “باربي” أن تترأس لجنة تحكيم مهرجان كان؟
“نابليون” في نسخته الأصلية خال من الموسيقى، لذا كان على المرمّمين إعادة كتابة الموسيقى التصويرية من الصفر، لفيلم تبلع مدته سبع ساعات، وهذا يعني آلاف الصحفات من النوتات. كان غانس عمل مع الملحن هونيغر في فيلم “العجلة”، وبقدر ما كان التعاون بينهما مثالياً على هذا الفيلم، كان الفشل في انتظارهما يوم حاولا التعاون على “نابليون”، إذ عجز هونيغر من تأليف الموسيقى له، بل من وضع بعض المقطوعات التي لم تعجب المخرج. لذلك، بادر غانس إلى ما كان معمولاً به في ذلك الوقت وهو الإتيان بأوركسترا سيمفونية للعزف بشكل عشوائي إلى حدّ ما. وهذا ما فعله المرمّمون، مع الفرق أن العمل لم يكن عشوائياً، بل تمت الاستعانة بشخص إسمه سيمون كوكيه، لديه، بحسب بونو، جهاز كمبيوتر في رأسه ويعرف كل ريبيرتوار اللحن السيمفوني عن ظهر قلب.
في النهاية، ما الذي يصنع سحر “نابليون”؟ سؤال تطرحه شارلوت بافار على بونو، فيرد قائلاً: “من المفترض أنه فيلم سيرة، بمفاهيم اليوم، لكنه ليس كذلك البتة. “نابليون” هو نوع من إوديسّا تجريبية يحاول ابتكار شكل فنّي جديد ويعيد اختراع المونتاج السينمائي كما يعيد ابتكار السينما نفسها. يحمل طموحاً إلى حد الجنون وجرأة غير مسبوقة على مستويي المونتاج والكتابة”.