اعترافٌ غير متوقّع من شخص غير متوقّع. بعدما أذهلت المراقبين حين تصدّت لثاني أكبر جيش في العالم ومنعته من أن يسقط عاصمتها وحكومتها، يبدو أنّ أوكرانيا بدأت تلمّح إلى معاناتها من التعب. في الواقع، هي تعترف بأنّ الحرب ذاهبة باتّجاه مراوحة استنزافيّة… “لن تخدمها على المدى البعيد”.
“لن يكون هنالك اختراق عميق وجميل على الأرجح”، قال القائد العام للقوّات المسلّحة الأوكرانيّة فاليري زالوجني. جاءت توقّعات زالوجني الذي يصفه البعض بـ”الجنرال الحديديّ” في مقابلة مع مجلّة “” البريطانيّة.
أقرّ زالوجني بأنّه كان مخطئاً حين ظنّ أنّ استنزاف القوّات الروسيّة يمكن أن يوقف روسيا. “كان ذلك خطأ. خسرت روسيا 150 ألف قتيل على الأقلّ. في أيّ دولة أخرى كان لهذه الخسائر أن توقف الحرب”. لكنّ روسيا لا تقيم وزناً لأرواح جنودها كما يقول.
150 ألفاً
يوصل الجيش الأوكرانيّ عدد قتلى القوّات الروسيّة إلى أكثر من 300 ألف. لكنّ رقم 150 ألفاً مع تقييمات محلّلين ومسؤولين غربيّين آخرين. مهما يكن عدد القتلى الروس، يصعب العثور على مراقبين يعتقدون اليوم أنّ الخسائر الثقيلة التي لحقت (أحياناً أكثر الف قتيل يوميّاً) ويمكن أن تلحق مستقبلاً بالجيش الروسيّ ستضع حدّاً للحرب. صور انهيار الجيش الروسيّ في خاركيف وخيرسون بين أيلول (سبتمبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) الماضي لم تتكرّر، وعلى الأرجح لن تتكرّر في أيّ وقت قريب. ربّما أمكن أن يحصل ذلك في وقت سابق، لو عجّل الأميركيّون بإرسال الصواريخ في صيف أو خريف 2022 كحدّ أقصى. زالوجني أيضاً أشار إلى ذلك.
حينها، كان بإمكان أوكرانيا أن تقصف المخزونات العسكريّة الروسيّة في الخطوط الخلفيّة البعيدة لإجهاد الإمدادات اللوجستيّة بالتزامن مع مفاجأة الروس. لكن في الشتاء، تمكّن الجيش الروسيّ من بناء خطوط دفاعيّة متوازية تجمع بين الخنادق والألغام والعوائق. أظهر تقرير لـ”واشنطن بوست استند إلى صور الأقمار الاصطناعيّة كيف تعزّزت التحصينات الروسيّة في الشتاء والربيع مع إشارة الصحيفة إلى أنّ أوكرانيا تدفع ثمن تردّد الحلفاء. الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي أبدى امتعاضه من تأخّر الهجوم المضاد بناء على مشورة الغرب. للمفارقة، كان زالوجني ممتنّاً للدول الحليفة.
سخرية
“ليسوا مجبرين على إعطائنا أيّ شيء، ونحن ممتنّون لما حصلنا عليه، لكنّني ببساطة أتحدّث عن وقائع”. الآن، لم تعد الصواريخ التي ستصل أو حتى مقاتلات “أف-16” قادرة على كسر التوازن؛ وهي أساساً أسلحة من الجيل الماضي كما يقول. فالروس حدّثوا من جهة دفاعاتهم، والمطلوب من جهة أخرى تكنولوجيا مبتكرة لا فقط كمّيّات كبيرة من الأسلحة. إذاً، انسداد الأفق سيسطر على الميدان في الأشهر المقبلة.
يتحدّث زالوجني للمجلّة نفسها عن الصعوبات التي واجهها الجيش الأوكرانيّ والفارق بين إرشادات حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) النظريّة والتطوّرات الميدانيّة. يقول بسخرية: “إذا نظرتم إلى كتب الناتو والرياضيّات التي قمنا بها، كان يجدر بأربعة أشهر أن تكون وقتاً كافياً بالنسبة إلينا للوصول إلى القرم، والقتال في القرم، والعودة من القرم، والعودة إليها والخروج منها مجدّداً”.
ببساطة، باتت الأجواء مراقبة بشدّة من الطائرات بلا طيّار بحيث يستطيع الطرفان توجيه ضربات دقيقة ضدّ بعضهما البعض. بحسب رؤيته، ثمّة حاجة لاختراق تكنولوجيّ جديد في مجالات عدّة (مسيّرات، إلكترونيّات تشويشيّة، مضادات للمدفعيّة، روبوتات…). الأهمّ هو اعترافه بأنّ هذا الاختراق ليس قريباً.
صراحة مفرطة؟
يعترف زالوجني أيضاً بأنّ حرب الخنادق الاستنزافيّة تصبّ في مصلحة روسيا بالرغم من تأكيده أنْ ليس لدى أوكرانيا سوى الإبقاء على المبادرة والهجوم حتى لو منحها ذلك تقدّماً ببضعة أمتار يوميّاً. “فلنكن صادقين، إنّها (روسيا) دولة إقطاعيّة حيث المورد الأرخص هو حياة الإنسان. وبالنسبة إلينا… أثمن ما نملكه هو الحياة البشريّة”. إذاً، مجدّداً، ليست القضيّة قضيّة أسلحة وحسب. “نحتاج للعثور على هذا البارود، وإتقانه بسرعة واستخدامه لنصر سريع… لأنّه عاجلاً أم آجلاً سنجد أنّنا ببساطة لا نملك ما يكفي من الناس للقتال”.
كان زالوجني صريحاً إلى حدّ كبير بشكل ربّما ينعكس سلباً على بلاده. يقول للأوكرانيّين، بطريقة غير مباشرة، إنّه حتى لو وصلت أسلحة نوعيّة كثيرة، لن يكون للتفاؤل مساحة كبيرة. الكلام نفسه قد يثبط بعض الأوكرانيّين عن التطوّع في الجيش، طالما أنّ الدعم والتدريبات الغربيّة لن تكون كافية لقلب موازين القوى وطالما أنّ المفاجآت التكنولوجيّة التي يتحدّث عنها بعيدة المنال. لهذا السبب، يترك كلام زالوجني المراقبين أمام أسئلة محيّرة من دون أيّ أجوبة. لماذا اعترف الآن بانسداد الأفق العسكريّ في وقت تتزايد الشكوك في الكونغرس الأميركيّ بإرسال المساعدات العسكريّة إلى أوكرانيا؟
وهل حصل زالوجني على الضوء الأخضر من زيلينسكي للإدلاء بهذه المعلومات خلال المقابلة؟ في حال كان الجواب سلبيّاً سيكون لكلام زالوجني تردّدات في الساحة الداخليّة، وهي تردّدات قد لا تبقى كثيراً طيّ الكتمان. وإذا كان الرجلان متّفقين على نشر هذه الوقائع فقد يعبّر ذلك عن ميل جادّ لدى كييف لفتح باب المفاوضات.
هل تلاقيها إلى منتصف الطريق؟
سيكون أسهل نسبيّاً على القيادة العسكريّة الأوكرانيّة التلميح إلى إمكانيّة فتح هذا الباب بالمقارنة مع الرئيس. لو أطلق زيلينسكي مبادرة كهذه لكان واجه اتّهامات شعبيّة محتملة بالخيانة. لكن حين يعترف قائد الجيش بأنّ الخيارات العسكريّة شبه مقفلة، هو يترك للقيادة السياسيّة هامشاً أوسع من حرّيّة التصرّف ويهيّئ الأوكرانيّين نفسيّاً لتنازلات محتملة. مع ذلك، يبقى تصريح زالوجني بمثابة نوع من الصدمة بالنسبة إلى شعب تظهر استطلاعات الرأي أنّه يريد بغالبيّة مواصلة الحرب ضدّ روسيا حتى تحرير جميع أراضيه. وشعبيّة الجيش لدى الأوكرانيّين أعلى من شعبية الرئيس (95-81) وربّما هذا يفسّر قدرة زالوجني على قول ما لا يمكن للرئيس قوله مباشرة.
وليس واضحاً ما إذا كان هذا الاستعداد المفترض للتفاوض هو ملاقاة لاستعداد روسيّ مفترض آخر، بشكل موارِب على لسان رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو الصيف الماضي حين تحدّث عن أنّ بلاده يجب أن تنفتح على جارتها الأوروبّيّة. وأعلن الكرملين نفسه الاستعداد للمفاوضات. لكن ردّاً على تصريح زالوجني، قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إنّ الوضع لا يعبّر عن مراوحة إنّ روسيا تواصل شنّ عمليّتها العسكريّة الخاصّة. على جميع الأهداف أن تتحقّق مشيراً إلى أنّ أوكرانيا لا تستطيع هزيمة روسيا ميدانيّاً.
ولماذا يريد الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الاستعجال في التفاوض طالما أنّ 2024 لن تكون مريحة بالنسبة إلى أوكرانيا، أكان بسبب التشكيك الجمهوريّ أم الحرب على غزّة أم الانتخابات الأميركيّة؟ ربّما لأنّ الـ150 ألف قتيل رقم كبير على روسيا حتى وإن كان بإمكانها تحمّل حجم خسائر أعلى. ففي نهاية المطاف، ثمّة حاجة إلى إعادة بناء القوّات الروسيّة وهو أمر في الوقت نفسه، ستكون روسيا قد ضمنت ما يقرب من 20 في المئة من الأراضي الأوكرانيّة.
قال زالوجني إنّ القرم هي نقطة ضعف الرئيس الروسيّ. معنى ذلك، أنّ أوكرانيا تستطيع مواصلة استهداف شبه الجزيرة كما فعلت في الماضي حين أجبرت روسيا سحب أسطول البحر الأسود الخاص بها نحو الأراضي الروسيّة. لقد دمّرت أوكرانيا، وهي دولة من غير بحريّة عسكريّة، عدداً من السفن والغواصات الروسيّة التي تعدّ ركيزة أسطولها. هل تستخدم كييف نقطة القوّة هذه في المفاوضات المفترضة؟
يقول البغض إنّ الحرب بين روسيا وأوكرانيا انتهت لكنّ الجانبين لا يعرفان كيف ينهيان القتال. على الأقلّ ثمّة مؤشّرات الآن، ولو خجولة، إلى الانفتاح على فكرة إنهائه.