أسقط الأمين العام لـ”حزب الله”، أمس عن حزبه صفة “المقاومة” التي طالما توسّلها ل”تأبيد” سلاحه. وفي خطاب مطوّل كان ينتظره كثيرون بعدما جرى الترويج له على أنّه “خطاب العبور الى القدس”، تحدّث السيّد حسن نصرالله عن كل شيء إلّا عن تحرير الأراضي اللبنانيّة التي سبق أن صنّفها محتلة، فغابت مزارع شبعا والجزء اللبناني من بلدة الغجر نهائيًّا عن الواجهة!
وقدّم نصرالله نفسه، في خطاب غيّب فيه أيّ اعتبار- ولو بالحد الأدنى- للسلطات الدستوريّة اللبنانيّة، حاكمًا للبلاد وضامنًا للعباد، واضعًا الشروط التي تحول دون اتخاذه قرار توسعة الحرب التي بدأها على الحدود اللبنانيّة- الإسرائيليّة في الثامن من تشرين الأوّل( أكتوبر) الماضي، بمنهجيّة أسقطت نهائيًّا القرار 1701 الذي يتحكّم بالواقع الجنوبي، منذ انتهت الحرب الإسرائيليّة- اللبنانيّة في آب( اغسطس) 2006.
وفي إسقاطه صفة “المقاومة” عن حزبه وارتداء عباءة “الحاكم”، قدّم نصرالله نفسه و”حزب الله” وفق الصورة التي يرسمها لهما اللبنانيّون والمهتمون بالشأن اللبناني!
ومنذ سنوات لم يعد “حزب الله” بنظر غالبيّة اللبنانيّين تنظيمًا مقاومًا، إذ إنّه تخلّى عن فعل التحرير وتحوّل إلى فعل الدفاع، بطريقة أسقطت الدور السيادي المنوط بالجيش اللبناني، وسحبت قرار الحرب والسلم من السلطات الدستوريّة، ومنعت وصول أيّ شخصية الى المناصب العليا بعمليّة ديموقراطيّة إذا لم تكن تراعي المواصفات التي تخدم هيمنة الحزب على القرار السيادي، الأمر الذي يبقي منصب رئاسة الجمهوريّة، بما يرمز إليه من دور سيادي، شاغرًا!
وقد ذهب نصرالله في واحدة من أكثر إطلالاته استقطابًا، طواعيّة أو عفوًا، إلى حيث كان ينفي أن يكون!
ومن هذا الموقع، وبعيدًا من أدبيّات سبقه إليها أصغر محلل مؤيّد ل”محور المقاومة”، أوصل نصرالله، في خطابه، رسائله الرئيسة التي تتمحور حول إيران و”ووحدة الساحات” ودور لبنان!
كان هدفه الأوّل الذي خصّص له جزءًا وافرًا من الجهد أن يُعطي الخطاب الدبلوماسي الإيراني الذي يسعى حسين أمير عبداللهيان الى إرسائه، صدقية عاليّة، بتأكيد أنّ طهران تقف في صف تأييد قوى المقاومة ولا تصدر القرارات بالنيابة عنها، وأنّها “بريئة” من الهجوم الذي نفذته “حركة حماس” على غلاف غزّة في السابع من تشرين الأول( اكتوبر) الماضي، وأنّ لا علاقة لها على الإطلاق بقرار “حزب الله” الدخول في حرب ضد إسرائيل في الثامن من الشهر نفسه ولا في انخراط “الحوثيّين” والتنظيمات العراقية في “طوفان الأقصى”.
بطبيعة الحال، لم يوفّق نصرالله، في هذه الجزئيّة من خطابه، لأنّ التقارير التي تسهر على إعدادها كبرى أجهزة المخابرات في العالم، تجزم بأنّ “الحرس الثوري الإيراني” يُنسّق خطوات وقرارات هذه القوى والتنظيمات.
وتجهد إيران، منذ إعلان “حماس” حرب “طوفان الأقصى” أن تُبعد نفسها عن دور “المقاتل” لتأخذ دور “المؤيّد”، الأمر الذي يؤهلها لتلعب دورًا تحلم به، نظرًا لمكاسبه العالية من جهة وكلفته المنعدمة من جهة أخرى: التفاوض باسم “محور المقاومة” بصفتها أصدق أصدقائه!
وإذا نجحت إيران في الدور الذي حاول نصرالله أن يساعدها في التأهل للعبه، فهي بذلك تتحوّل الى المحاور الوحيد للولايات المتحدة الأميركيّة في المنطقة.
أمّا الرسالة الثانيّة التي عمل نصرالله على بلورتها، فتتمحور حول تشييع الطمأنينة من “وحدة الساحات” ومستقبل المنطقة بعد حرب “طوفان الأقصى”، في محاولة لاستدعاء دول المنطقة وقواها العلمانيّة الى المؤازرة.
وفي هذه لم يوفق أيضًا، فالجميع يدركون أنّ “محور المقاومة” المؤلف من تحالف “الإسلام السياسي الشيعي والسنّي”، يريد العبور الى القدس عبر سائر الدول العربيّة، ف”حزب الله” نفسه تخلّى عن التحرير لمصلحة بسط همينته الكاملة على لبنان، والقوى المماثلة له في العراق واليمن كذلك، فيما النظام السوري يبيد شعبه، تقتيلًا واعتقالًا وتهجيرًا، من أجل الإستمرار في السلطة.
وهذا المحور يتطلّع عمليًّا الى بسط هيمنته على دول أخرى، وكانت له محاولات في البحرين، وستبقى له محاولات في عدد من الدول العربيّة والخليجيّة.
ولا يمكن لخطاب نصرالله أن يمحو من الواقع ما سبق أن اعترف به كثيرون يتقدمهم ناطقون رسميّون باسم “حزب الله” إذ إنّ من أبرز أهداف “طوفان الأقصى” الإنقلاب على مسار التطبيع مع إسرائيل، على اعتباره “مسار خيانة”.
ولا يستقيم التحجج بالطبيعة المقيتة لحكومة بنيامين نتياهو الحالية التي أجاد نصرالله في هجائها، لأنّ “طوفان الأقصى” بدل أن يسيئ إليها أطال عمرها، إذ إنّها كانت على خلاف عميق مع الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي، كما كان نصف الشعب الإسرائيلي يواجهها، ليس باستطلاعات الرأي بل بالنزول أسبوعيًّا إلى الشارع ضدّها، فهي كما كانت مسيئة للفلسطينيّين كانت مسيئة لحلفاء إسرائيل ولشعبها!
أضف الى ذلك أنّ المملكة العربيّة السعوديّة، وفق تقاطع “نادر” مع القيادة الأميركيّة، ربطت أيّ تقدّم في مسار التطبيع مع إسرائيل، بالموافقة على حلول دائمة للمعضلة الفلسطينيّة.
إنّ ما أتاحه “طوفان الأقصى” من تدمير وقتل واعتقال للفلسطينيّين عمومًا وأبناء غزة خصوصًا، لم يكن ممكنًا، ولو بقدر ضئيل، قبله مهما ساءت أفعال “حكومة المجانين”.
والرسالة الأخيرة التي أراد نصرالله أيصالها تتمحور حول دور “حزب الله”. في الواقع، وخلافًا للحملة الترويجية، لم يطل الأمين العام ل”حزب الله” ليعلن مفاجآت “سارة للفلسطينيّن” بل ليبلغهم، رسميًّا، بغض النظر عن الإستدراك، أنّه جرى ترسيم حدود مشاركته في “طوفان الأقصى” في الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، وهو يقدّم لغزّة ما لم يقدّمه أحد له في العام 2006 الذي كان المثال الصارخ في خطابه، إذ إنّه يُشغل، بكلفة عالية، نصف الجيش الإسرائيلي، تقريبًا، عن العمل ضد غزّة.
وفي مقاربة غير موفقة، وبالإستناد الى مرجعية مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران السيّد علي خامنئي، قارن نصرالله بين حال إسرائيل في العام 2006 وحالها في حربها الراهنة ضد غزة، واعدًا على هذا الأساس بانتصار “محور المقاومة” في فلسطين.
وتجاهل نصرالله أنّ طبيعة الحربين مختلفة، فإسرائيل في العام 2006 لم تكن تخوض حربًا وجوديّة، في حين أنّها حاليًا في هذه الوضعيّة، لأنّها تربط بين خسارتها للحرب وخسارتها للوجود.
وكان واضحًا أنّ أسباب حصر نصرالله للمواجهة مع إسرائيل بحدودها الراهنة، متعددة، فهناك الضغط الشعبي الرافض، والإستعداد الإسرائيلي للتدمير، والمساعدة الأميركية- البريطانيّة التي أصبحت متوافرة في البحر.
وهذه هي النقاط التي كانت محور الجزء اللبناني من خطابه. بطبيعة الحال هدد واستهزأ، ولكن، الصحيح أنّ هذه المعايير تشكل كبريات هواجسه.
وبذلك، وجد نصرالله نفسه يتحوّل من مهدِّد بتوسيع الحرب ضد إسرائيل إلى خائف من إمكان توسيع الحرب ضدّه، حتى وجد نفسه يطلب من الجيش الإسرائيلي أن يتوقف عن استهداف المدنيّين الذين سقط عدد منهم في قصف الأيّام الأخيرة.
صحيح أنّ نصرالله هدّد بتوسيع الحرب لاحقًا إذا استدعت الضرورة اللبنانية أو حاجة غزّة، ولكنّ الصحيح أكثر أنّ من تمكّن من متابعة الخطاب حتى هذه النقطة، لاحظ أنّ نصرالله كان في موقع المستدرِك وليس في موقع المستهدِف، علّه يتمكن من أبقاء الغموض سائدًا!
على أيّ حال، لم يكن نصر الله يحتاج، من أجل خطاب من هذه النوعيّة،إلى أن يصمت 28 يومًا، كما كان بغنى عن عمليات الترويج التشويقيّة، لأنّ “الوعد لم يكن صادقًا”!