في العقدين الماضيين، بدا أن هناك إسلاما آخر يتشكل في الحياة اليومية التركية. فبعد قدوم المحافظين الأتراك إلى السلطة، اندفع عدد من الباحثين إلى القول إننا أمام ثورة الأناضول، أو ما بعد الإسلاموية، أو أمام انتصار الإسلام المعتدل على الإسلام المتشدد.
ولا شك في أن السنوات الأولى لحزب العدالة والتنمية أسفرت عن مجموعة من الإصلاحات الشاملة، ولو المؤقتة في مجالات عديدة، ولذلك غدت تركيا بالنسبة لكتاب وعدد كبير من مسلمي الشرق الأوسط نموذجا لبقية العالم الإسلامي. إلا أنه في المقابل، يبدو أن الحديث عن الإسلام في تركيا اليوم بات يحمل أسئلة صعبة ومعقدة. فخلافا للرؤية الإيجابية والمتفائلة، ترى وجهة نظر أخرى أن المحافظين قد عملوا بقيادة حزب العدالة والتنمية، على نقل تركيا من مشروع أيديولوجي مهيمن (العلمانية) إلى مشروع هيمنة آخر. كما تعتقد هذه الآراء أنه لا يمكن فهم المحافظين في تركيا بمعزل عن الصعود العالمي للسلطوية المعاصرة. إذ تشترك تركيا في عهد أردوغان ببعض القواسم المشتركة مع صعود السياسيين الشعبويين اليمينيين الآخرين، الذين وصلوا إلى السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية، وشرعوا في تفكيك المؤسسات الديمقراطية للدولة والمجتمع.
ولعل النقطة الأخيرة هي ما يشكل محور كتاب «سياسات الثقافة في تركيا المعاصرة» تحرير بيير هيكر، أيفو فورمان وكايا أكيلدز (منشورات أدنبره) إذ يجادل المحررون للكتاب بأن الطبقة الحاكمة الجديدة في تركيا سعت إلى التخلص من صورة التركي المسلم المستوحى من الكمالية، الذي يفضل أسلوب حياة قائم على القيم العلمانية، لصالح صورة المسلم المتدين الذي تتجذر هويته بعمق في الماضي العثماني المعاد تخيله، ترافق ذلك مع ظهور أو تبني سياسات ذاكرة بديلة تركز على الماضي البعيد، بدلا من الماضي القريب، بوصفه أساس الدولة والمجتمع، وإعادة اختراع ما يدعوه الكتاب بـ«الحنين العثماني».
محافظون مهمشون؟
اشتهر شريف ماردين بصياغة النموذج النظري، أو لفكرة المركز والأطراف في عام 1973. ووفقا لهذا النموذج، هناك انقسام ثقافي بين القطاعات المحافظة المتدينة في المجتمع من جهة، ونخبة الدولة البيروقراطية الحديثة من جهة أخرى. ويضيف ماردين أن كلا المجموعتين تختلف عن الثانية في أنماط حياتهما وآرائهما السياسية. وحسب المشاركين في الكتاب، فإن نموذج أو إطار ماردين الثنائي شهد مراجعات وانتقادات عديدة، على الأقل من حيث ثنائيته الصارمة، ومع ذلك ينبغي أن لا يحجب هذا حقيقة أن الثنائية التي صورها لا تزال تحمل جاذبية شعبوية، وأهمية في الخطاب السياسي. وعادة ما يجري تبنيها إلى يومنا هذا من قبل النخب الحاكمة، من أجل القول بأنهم كانوا ضحايا وحرموا من حقهم في الحكم، في حين تظهر الحياة اليومية في تركيا اليوم أن الإسلام والمحافظين باتوا هم من يسيطرون على قطاعات واسعة في البلاد. ما يلفت نظر المشاركين في الكتاب أيضا، أن النخبة الحاكمة في تركيا في محاولتها لكسب التفوق الخطابي على خصومها السياسيين وتوسيع سلطاتها المهيمنة على الدولة والمجتمع، تسعى لفرض أساطير جديدة مثل، إعادة اختراع السلطان عبد الحميد الثاني في الذاكرة العامة التركية.
عربة لبيع العيران التركي
كان السلطان عبد الحميد قد مثل في السرديات الرسمية للجمهورية التركية مثالا على الرجل المعيق للإصلاح والحداثة. كما اتهم بوصفه المسؤول عن إحياء الأفكار الإسلامية في نهاية الدولة العثمانية. لكن في السنوات الأخيرة، كانت ذاكرة السلطان مشبعة بمعنى جديد، خاصة في الثقافة الشعبية التركية ومن خلالها. إذ صور عبد الحميد بوصفه سلطانا قويا، وزعيما عادلاً، يخشى الله، ويهدف إلى الدفاع عن أراضي المسلمين من الطغيان الغربي، وهذا ما نراه واضحا في مسلسل درامي تركي شهير تناول حياة عبد الحميد. ومن خلال هذا المسلسل، وأيضا من خلال سياسات الحزب في إعادة ترميم الأماكن التراثية، يبدو أن المحافظين الأتراك قد تمكنوا من فرض فكرة تقول إنه من المستحيل تصور تاريخ لتركيا ليس إسلاميا، ولا عثمانيا. ما لم يلتفت إليه المشاركون في هذا السياق، أن هذا الخطاب الساعي إلى ربط الحياة اليومية التركية بالتاريخ العثماني، لم يقتصر فحسب على السلطة ونخبها، بل نرى المعارضة التركية، اندفعت جراء قوة خطاب المحافظين، إلى تبني جزء من سردياتهم أيضا، وبالأخص ما يتعلق بعلاقة الأتراك بالعثمانيين، بعد سنوات طويلة من القطعية معهم. وهذا النفس نلاحظه مثلا في كتابات المؤرخ التركي البير أورتايلي، المحسوب على المعارضة التركية. إذ أخذ أورتايلي في السنوات الأخيرة يحرص على تبني، أو رسم صورة أخرى عن أتاتورك، باعتباره لا يمثل ذئب الأناضول، وفق الرواية الكمالية العلمانية، بل بوصفه آخر الغزاة العثمانيين، الذي تمكن من الحفاظ على مركز الخلافة ودافع عنها، واضطر لاحقا إلى القطعية مع إرث العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى خوفا من فرض إرداة غربية (النفس ذاته نراه في كتابات خليل أينالجيك). وبالتالي يمكن القول إن السلطة التركية نجحت أحياناً من فرض رؤيتها المهيمنة حول الماضي وعلاقته بالحاضر على المعارضة أيضا.
شراب إسلامي
في فصل بعنوان «الأمة والكحول في تركيا» يناقش السوسيولوجي التركي أيفو فورمان فكرة ظهور العيران (لبن مخفوق) كرمز للجمهورية التركية المحافظة/ الجديدة، بدلا من رمز الراكي (العرق/ الخمر) الممثل للثقافة الجمهورية الكمالية.
ففي عام 2005 عمل حزب العدالة والتنمية، على سن عدد من القوانين، التي تحد من بيع المشروبات الكحولية، الأمر الذي كانت له تاثيرات في تغيير مناطق مثل بي أوغلو وكركوي وتقسيم. كما شن الحزب حملة للقضاء على الصور المتعلقة بالكحول، وفرض ضرائب باهظة على بائعيها. مع ذلك لم يمنع العدالة والتنمية شرب الكحول، كما حدث في تجارب إسلامية أخرى، وإنما حاول بدلا من ذلك جعل استهلاك الكحول مرة أخرى ممارسة هامشية غير مرئية، كما حاول أردوغان ربط المعارضة بشرب البيرة، والادعاء بأن حزب الشعب المعارض العلماني يشجع السكر بين أطفال المدارس الابتدائية. بينما يعتقد الباحث أن الحزب حاول النظر إلى الرموز (الشراب) بوصفها إحدى الطرق التي من خلالها تقوم الدول القومية، باضفاء الطابع الشخصي على الأمة المتخيلة وبناء الهويات الوطنية.
كان استهلاك الكحول يعد من الممارسات الأكثر إثارة للجدل، التي تم إدخالها في الحياة اليومية مطلع القرن العشرين. وقد ارتبط استهلاك الكحول ارتباطا وثيقا بالهوية الوطنية التي تروج لها الأيديولوجية الكمالية، وسرديات الحداثة التي تروج لها الدولة القومية الكمالية، اذ حرص الكماليون على تبني الممارسات الثقافية التي كانت أقرب إلى أنماط الحياة الأوروبية الحديثة. والواقع أن الأب المؤسس لتركيا، مصطفى أتاتورك، كثيرا ما كان يصور للجمهور على أنه شخص يستمتع بشرب بالراكي (العرق/ المشروب). وقد حاول أتاتورك ربط الجنسية التركية بشرب الكحول، ما خلق معضلة أخلاقية لأولئك الذين عرفوا أنفسهم على أنهم مسلمون قوميون متدينون. وفي ضوء ذلك من الممكن قراءة تثمين أردوغان الرمزي لمشروب العيران كمحاولة شعبوية لتمزيق التمثيلات المعيارية للهوية الوطنية، ولذلك أصبح جزءا من محاولته لخلق رمح رمزي. يبدو ذلك واضحا في إعلان تجاري نشر عام 2016 وحمل شعار «لتكن طبيعيا.. اشرب بعض العيران» بغض النظر عن الثقافة والطبقة ونمط الحياة، وهو ما يظهر كيف أخذ الحزب يعمل على تديين أصغر الاشياء( الطعام والشراب) والحياة اليومية عموما، لضمان سياساته الشعبوية، وبناء جمهوريته المحافظة.
كاتب مغربي