بمعزل عن معادلة الربح والخسارة في الحرب الأخيرة بين إسرائيل وأميركا وبين إيران، كان الصدام العسكري متوقّعاً وبحدود الممكن، وهو بمنزلة الامتحان الأوّل لما قد يأتي. لم ينتهِ النزاع، وقدرات إيران النووية قائمة، وإن بات استكمال مشروعها أكثر صعوبة، وتصميم أميركا وإسرائيل على التصدّي لإيران بأيّ وسيلة على حاله.
لأنّ الحرب بين إيران وإسرائيل غير مألوفة، فنتائجها ملتبسة وطرق المواجهة بين أطرافها سالكة. فهي ليست نزاعاً بين دولتين متجاورتين، مثلما هي حال روسيا وأوكرانيا، بل صراع على مسألة لا تعني حصراً طرفَي النزاع الأساسيَّين، بل المنطقة كلّها، وبالتالي الدولة العظمى ورئيسها بالتحديد. فلو التزمت إيران القواعد المطلوبة لإثبات الغاية السلميّة من برنامجها النووي وفق معايير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، لما كانت الحرب متاحة، أقلّه من الجانب الأميركي.
السؤال في هذا السياق محوره إسرائيل، النووية منذ خمسينيّات القرن الماضي بدعم فرنسيّ. فلو أرادت إسرائيل بناء قدرات نووية اليوم، لواجهت صعوبات جمّة. سباق التسلّح النووي بلا عقبات كبرى ولّى زمنه. وحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما طوّرت بعض الدول سلاحاً نوويّاً واستطاعت الهند ولاحقاً باكستان أن تنضمّ إلى النادي النوويّ بضوابط لا تزال قائمة، انتهت مفاعيلها. وباتت اليوم كوريا الشمالية أبرز الخارجين عن الرقابة الدولية وبكلفة باهظة اقتصاديّاً وسياسيّاً.
يمكن بناء ترسانة عسكرية ضخمة بالسلاح التقليدي، لكن من يجرؤ على استعمال السلاح النووي، لا لأنّه محظور، بل لأنّه مدمّر للغير وللذات
هوّة عميقة
الواقع أنّ التحدّيات التي تواجه إيران تتجاوز المسألة النووية وتصل إلى المنطقة المحيطة ونزاعاتها المتعدّدة، والهوّة الفاصلة بين طهران وواشنطن عميقة، عمرها من عمر الثورة الإسلامية. تتصدّى أميركا ترامب لإيران النوويّة وتتفاوض مع الدولة والنظام. من جهتها تسعى طهران إلى النووي منذ زمن الشاه، حليف أميركا وصديق إسرائيل، بينما إيران الإسلامية في موقع مناوئ وطامحة إلى أدوار الدولة العظمى. الصين، مثلاً، تواجه أميركا بالتمدّد الاقتصادي وتتجنّب مواجهة واشنطن عسكريّاً في تايوان، وتصدّر التكنولوجيا وتترك الأيديولوجية للاستهلاك الداخلي.
في المقابل، “صادرات” إيران الإسلامية متنوّعة، تبدأ بالسياسي وتصل إلى الديني، وبينهما العسكري باسم أيديولوجية هادفة. التوسّع والنفوذ شيء، والصدام مع دول المحيط شيء آخر. دعم إيران لجهات فلسطينية ولبنانية لإزالة الاحتلال وبسط النفوذ في العراق واليمن وسوريا الأسد يختلف عن هدف القضاء على إسرائيل، وإلحاق الهزيمة “بالشيطان الأكبر”. مواجهات بالجملة، منها الديني مع مرجعيّة النجف في العراق، ومنها السياسي مع مصر والسعودية وتركيا وسواها، ومنها العسكري داخل فلسطين المحتلّة وفي محيطها. ولبعض دول المنطقة طموحات نووية مرتبطة بمآل النووي في إيران. وعندما حاول صدّام حسين بناء قدرات نوويّة عسكريّة، دمّرتها إسرائيل في 1981 برضى دوليّ.
إيران
استفادت إيران من ظروف ملائمة في الماضي. حرب صدّام حسين مع إيران طوال ثماني سنوات وحّدت البلاد تحت لواء الثورة الخمينيّة. الاجتياح الأميركي في 2003 فتح العراق للنفوذ الإيراني، وكذلك حرب اليمن، بينما حرب سوريا متّنت العلاقة مع إيران و”الحزب”. أعطى الاتّفاق الدولي مع إيران زمن الرئيس باراك أوباما فترة سماح سرعان ما انتهت مع مجيء الرئيس ترامب إلى السلطة. لم تعد هذه الظروف المؤاتية قائمة اليوم مع أقصى التطرّف الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو وأقصى الضغوط التي يمارسها ترامب.
تستهدف حرب إسرائيل مع إيران الدولة والثورة، بينما حرب ترامب غايتها تبديل سلوك النظام. الفارق كبير بين الحرب الشاملة والحرب الهادفة
تستهدف حرب إسرائيل مع إيران الدولة والثورة، بينما حرب ترامب غايتها تبديل سلوك النظام. الفارق كبير بين الحرب الشاملة والحرب الهادفة. لذلك التقاطع بين أميركا وإسرائيل ليس ثابتاً، بل معرّض للاهتزاز بالنسبة إلى إيران ومسائل أخرى متّصلة.
خسارة شاملة
السؤال هنا: هل للمفاوضات وظيفة ممكنة في ظلّ الوضع الراهن؟ في الشكل التقاط الأنفاس مفيد، إلّا أنّ المضمون يظلّ بلا جدوى ما دامت المواقف على حالها. تتمسّك إيران بالنوويّ وتربط مصيرها به، وأميركا تصرّ على تعطيله. أمّا إسرائيل فتسعى إلى حرب واسعة تتجاوز قدراتها الذاتية.
إزاء هذه التشابكات، الغاية من النووي مطروحة، وكذلك التساؤلات. هل بالسلاح النووي تقضي إسرائيل على قضيّة شعب وحقّه بدولة أسوة بشعوب العالم؟ وهل تحرير فلسطين وسواها من الاحتلال مرتبط بنسب تخصيب اليورانيوم؟ والأهمّ، هل يحقّق النووي الحماية لمريديه، أم موازين القوى العسكرية التقليدية هي الفاصلة؟
لكن في أيّ حال، المشترَك بين أطراف النزاع أنّ المصلحة الوطنية تأتي في الصدارة، وطبعاً وفق معايير أصحاب السلطة وأولويّاتهم. تتصدّر مصالح إيران الدولة متطلّبات الثورة “وللصبر الاستراتيجي” حدود، وتكمن مصالح إسرائيل في وضع حدّ لنفوذ إيران المعادية قبل النوويّ وبعده ولخيارها أيضاً حدود. أمّا مصالح أميركا ترامب فمزيج من تطويق إيران وإعادة الاعتبار للدولة العظمى بعد عقود من أسوأ العلاقات الثنائية. المسألة الملحّة اليوم حماية المصالح الذاتية، إلّا أنّ إسرائيل غير قادرة بلا دعم أميركي، وإيران محاصَرة بلا دعم دولي، وتبقى أميركا المحور الحاسم في الحالتين. وإذا كان التطبيع الإبراهيمي صعب المنال فإنّ النووي الإبراهيمي مستحيل.
الواقع أنّ التحدّيات التي تواجه إيران تتجاوز المسألة النووية وتصل إلى المنطقة المحيطة ونزاعاتها المتعدّدة
في الختام، يمكن بناء ترسانة عسكرية ضخمة بالسلاح التقليدي، لكن من يجرؤ على استعمال السلاح النووي، لا لأنّه محظور، بل لأنّه مدمّر للغير وللذات. عندما استعملت أميركا السلاح النووي لمرّة واحدة لإنهاء الحرب العالمية الثانية لم تكن تواجه منافساً نوويّاً آنذاك. وهل بإمكان روسيا اليوم إدخال النووي في الحرب مع أوكرانيا؟
إقرأ أيضاً: إيران إذا تغيّرت: كيف تعيش ويعيش معها العرب؟
الخسارة شاملة جرّاء استعمال النووي، لكنّ ثمّة أسئلة تفرضها الوقائع، لا سيما في المنطقة حيث المخارج رهينة “حوار طرشان” في أحسن الأحوال، والصواريخ القاتلة في أسوئها. وعندما تكون الثقة مدمَّرة فالنتيجة حتماً مدمِّرة.