مرحباً وكل سنة هجرية جديدة وأنتم بخير في كل مكان،
لما بدأتُ مراجعة مطولات هذا الأسبوع في الفراتس، تذكرت مقولة تتردد في نجد: “ديرتك هي اللي ترزق به”. وهي جزء من مقولة أطول مفادها أن موطنك ليس المكان الذي تُولد به، بل الذي تُرزق به. وأظن أنها مقولة مرتبطة بـ “العقيلات”، واحدهم عقيلي، وهي الطبقة التجارية النجدية التي كانت تسيّر قوافل التجارة من نجد إلى مصر والشام والعراق وصولاً إلى بومباي في الهند. تذكرت هذه المقولة وارتباطها بعلاقة الإنسان بالمكان والترحال لأنها السّمة الأبرز لمطولات الأسبوع.
تتجلى العلاقة مع المكان السليب في مطولتين عن فلسطين. الأولى مطولة “من العراق إلى تشيلي: رحلة اللاجئين الفلسطينيين في الشتات” التي تناقش فيها أستاذة الأنثروبولوجيا خلود العجارمة التهجير المضاعف لمجموعة من الفلسطينيين الذين هُجّروا من ديارهم إلى العراق أول مرة بعد النكبة، ثم من العراق إلى تشيلي بسبب الاحتلال الأمريكي، أو “النكبة الثانية” كما تنقل الكاتبة عنهم. بهرني في هذه المطولة الحديث عن علاقة هؤلاء اللاجئين الموطّنين حديثاً في تشيلي مع المجتمع الفلسطيني الموجود هناك منذ أكثر من قرن، والذي يمثّل أكبر تجمع للفلسطينيين في أمريكا اللاتينية.
أما المطولة الثانية “البحث عن منزل عائلتي في فلسطين قبل النكبة” فعكس أختها، لأنها لا تتحدث عن التهجير من فلسطين بل عن العودة إليها. إذ تأخذنا الأكاديمية الفلسطينية السورية مروة داودي معها في رحلتها إلى بلدة أهلها في طبريا التي هجرتهم منها العصابات الصهيونية إبّان النكبة ثم بنوا مستوطنة مكانها. وعكس الفلسطينيين الذين هُجروا مرتين قبل وصولهم إلى تشيلي، استطاعت مروة دخول فلسطين ورؤيتها عن قرب وزيارة مكان قريتها بفضل جواز سفرها غير العربي.
نجد هذه العلاقة المعقدة بالمكان مع مطولة “الانهيار المزمن لطرق اليمن تحلّه المبادرات الأهلية” للصحفي اليمني عبدالله علي. فما يعيق حركة الناس وتنقلاتهم ليس احتلالاً استيطانياً كما هو الحال في فلسطين، بل فشل الدولة وانهيارها عن أداء إحدى مهامها الأساسية وهو تعبيد الطرق بين المدن. ونرى في المطولة كيف أدّت المؤسسات الأهلية مهامّ الدولة في اليمن، بينما يُفترض أن تكون درعاً واقياً للناس من تغوّل السلطة وتوحش النظام الاقتصادي وكوارث الطبيعة والمناخ.
ولا يقتصر معنى المكان على تقييد حركة الناس منه وإليه وتقنين علاقتهم به، بل قد يصبح حاجزاً معرفياً لأفكارهم وموضوعاً لشعرهم وأدبهم، كما نرى في المطولتين الأخيرتين هذا الأسبوع. فقد كشفت مطولة بهاء الدين محمد “التناقضات الفكرية في بيان هابرماس عن حرب غزة: بين كونية القِيَم وخصوصيتها”، وقدّمت قراءة ثريّة لهابرماس تركزت على نقد تفريق هابرماس بين الآخر القريب قيمياً وتاريخياً من مكانه الأوروبي الذي يستحق التعاطف والاعتراف، والآخر البعيد الذي مصيره التجاهل والإقصاء.
أما في مطولة “ساحر الصورة والمعنى: تأملات في قراءة أعمال سليم بركات” التي يقرأ فيها الكاتب والصحفي دلير يوسف أعمالَ المبدع السوري الكردي سليم بركات، فقد تحوّل المكان إلى موضوعٍ شعري وأدبي. فدلير يقرأ سليم هرباً من عالمٍ قاسٍ، ولكن سليم يردّ بنصوص تهيّج في دلير حنينه إلى أماكن في سوريا فارقها، وحزنه عليها، مثل “عُضّ المكان أيها الحنين، عُضّ المكان” أو هذا الاقتباس الذي أختم به المراجعة: “هذا ما أقوله، وأنا أغادرُكم مِن الباب الخلفيّ المُفضي إلى الحياة”.
تغريبة الثورة السورية
كتابة فرح يوسف، مُحررة مُنشِئة.
أراقب منذ أسبوع مشهد سعينا السوريّ المحموم إلى حلٍّ سياسيّ يكفل عودتنا الكريمة والسريعة من الشتات، وسعينا في آن إلى إيقاف حملات ترحيل السوريين والسوريات من تركيا ولبنان إلى مصير كابوسي في سوريا. أتخيل نفسي برأسين وقلبين، يركضان باتجاهين مختلفين، تحت مظلة كالغربال يسرب منها مطر العدالة السائلة ورماد الاتفاقيات والمعاهدات التي تأمّل أناس الحرب العالمية الثانية أن تحسن مستقبلهم وواقعنا. ربما يعود هذا الخيال لوجودي في فرنسا، حيث نشأت “السُّريالية” المدرسة الفنية والفكرية التي تتجاوز أساليب تعبيرها المنطقَ والنظام، مدرسة ما وراء الواقع التي ازدهرت بين الحربين العالميتين.
في هذا الوقت العصيب عدتُ إلى أرشيف الفراتس لأتصفح الأعداد المُضافة حديثاً، بحثاً عن حوار ذهني مع فترة الحرب العالمية الثانية. واخترتُ الكاتب والرسام المصري رمسيس يونان الذي ارتبط عمله بمجموعة الفن والحرية، وهي مجموعة سُريالية مقرّها القاهرة.
يقول رمسيس يونان في مقالته “حركة السير ريالزم” المنشورة بتاريخ 4 سبتمبر 1939: “يصعب علينا أن نضع تعريفاً للسير ريالزم فى كلمات قليلة. فإذا كان لابد من ذلك فعلينا أن نقول: إنها حركة اجتماعية فنية، سياسية، فلسفية، سيكولوجية… ولا بأس أن نضيف أيضاً أنها حركة دينية”.
يخبرنا الكاتب أن “التغريب”، أي نقل الأشياء من وسطها المألوف إلى آخر غريب عنها، هو أحد أدوات محاربة اعتياد الواقع السريالية. وأن “النفس الإنسانية مكونة أيضاً من طبقات يتحكم بعضها فى رقاب بعض”، والتحرير الاجتماعي من وجهة نظر سريالية يترافق مع التحرير النفسي ومقاومة اعتياد الواقع.
حين انطلقت الثورة السورية سنة 2011 كنا نواجه الواقع بكثير من الأحلام. لكنني لم أنتبه يومها إلى سوريالية ما نفعل، إذ كنا نوطّن ما وراء الواقع في الواقع السوري ونوظّفه. ربما لم نغرّب أنفسنا حين انتقلنا من أماكننا المألوفة سنين طويلة خلف الجدران التي لها أذان، إنما أعدناها إلى وسطها الطبيعي المسلوب منها: الساحات والطرقات والشوارع التي احتكرتها قبضة الديكتاتور عقوداً طويلةً وثقيلة على البلاد والعباد. لكننا كنا سورياليين وسورياليات في “مواجهة العقل الواعي بالعقل الباطن، والمنطق بالخيال، والواقع بالحلم، والحقيقة بالخرافة، والحكمة بالجنون”. كان تغريبنا إعادة تعريف وتأطير للمألوف والغريب والمكان.
عشنا في واقع التناقضات وغير المعقول، لكننا حلمنا وآمنا بإمكانية التغيير. إذا كانت هذه الحركة محاولة للتصالح مع التناقضات واستعمالها قوةً دافعة إلى الإبداع والتغيير، فقد حاولنا تجاوز القيود التي فرضها علينا النظام القمعي والتي رأيناها خطأً عقلانية، وفتح آفاق جديدة للفعل والأمل.
ربما انجرفنا لاحقاً في النضال التلقائي بما يشبه تجرد الكاتبة والرسامة من عقلها الواعي، وصولاً إلى ما يشبه الغيبوبة أو التنويم المغناطيسي، ثم تدوين وتسجيل الخواطر والرؤى. مارسنا نضالية وثورية متدفقة بلا استراحة أو مراجعات ذاتية وجماعية بسبب الضغط المستمر والاحتياج الملح للتحرك والعمل، وبسبب الصراعات الداخلية بين الخوف من التسليم بالواقع والرغبة في تغييره.
ربما أَظْلِمُ السريالية إذا أسقطت المشهد السياسي السوري عليها. إنه أقرب لعشوائية عقيمة، وركض في عجلة كفئران أليفة. أدرك أن السعي إلى العدالة والحرية هو الطريق الوحيد الذي يمكننا اتباعه، ولا أظن أننا فقدنا الأمل جمعيّاً. وكما يقتبس رمسيس يونان افتتاحية مقالته من تروتسكي “يجب أن نحقق لكل إنسان نصيبه من الخبز… ونصيبه من الشعر”، أختم وأضيف: ونصيبه من الكرامة.
مقالات الأسبوع
تهافت هابرماس: الضحية المميزة والآخرُ المُقصى
يجادل بهاء الدين محمد بأن بيان التضامن الذي أصدره الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس عن حرب غزة يتوافق مع نظامه الفكري والمدرسة النقدية المنتمي إليها، خلافاً للقراءات التي اعتبرته تناقضاً أو انحرافاً عن فكره ومرجعيته الفلسفية.
الهروب من العالَم إلى سليم بركات
يتأمل المخرجُ والكاتبُ السوري دلير يوسف أعمالَ سليم بركات سارداً تجربته الطويلة في قراءة أشعاره ورواياته ونصوصه.
ر
البحث عن منزل عائلتي في فلسطين قبل النكبة
باحثة سورية فلسطينية تحكي قصة زيارتها للمكان الذي عاش فيه أهلها لأجيال متعاقبة قبل أن يهجّروا منه إبّان النكبة.
طُرُق اليمن: بيَدي لا بيَد الحكومة
يعاني سكان اليمن من انهيار الطُرق العامة الذي زاد سوءًا بالاضطرابات السياسية والعسكرية. ومع استمرار الأحوال الواهنة بادر اليمنيون إلى التعاون الأهلي لحل معضلة الطُرق المزمنة.
من العراق إلى تشيلي: رحلة اللاجئين الفلسطينيين في الشتات
اللغة ليست أداةً محايِدةً بل هي عوالمُ تحيطُ بنا إحاطةَ الماء بالسَمَك، وأغلبُنا كالسمكة لا يشعر أنه مغمورٌ بهذا العالم.