كان يا ما كان…
ــ 1 ــ
في عام 1977، في بدايات ذلك العام تقريبًا، أو في وسطه، أو في نهاياته، لا يعلم، فقد مرّت السنوات سراعًا، كان الفتى قد أنهى الفصل الأول من فصول دراسته الجامعيّة في الجامعة الأردنية، ثمّ قرّر فجأة أن يرحل إلى بيروت، ليدرس هناك. في الجامعة العربية غالبًا. هكذا كان يفكّر، ويتذكّر الأصدقاء والرفاق الذين سبقوه إلى هناك. كانت بيروت حلمَ كثير من الشباب المُولعين بالثورة الفلسطينية. وحتى باليسار اللبناني وأحزابه. فقد قرأ حسين مروة، ومهدي عامل، وغيرهما من مفكّري لبنان اليساريّين الماركسيين الأفذاذ المبدعين. وسمع كثيرين يتحدّثون عن “جمهوريّة الفاكهاني”، وعن مطعم أم نبيل.
وصل إلى الشام، حيث وعده الأصدقاء بتوصيله إلى بيروت من دون تأشيرة. أقام في الشام أيّامًا يتسكّع بين ساحة المرجة، وفندق في منطقة الحريقة، ومقاهي الصالحيّة. لم يكن يحمل من النقود سوى مئة ليرة سورية فقط، لكنّها تعادل ربع راتب موظّف، ومكافأة كاتب في صحيفة سورية، وينبغي أن تكفيه حتى يصل إلى بيروت، وهناك لديه من يكفيه إقامته ومصاريفه.
احتفى به أصدقاء الشام، وكان الأجمل لقاءه مع الشاعر العظيم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) في أحد المكاتب. قدّموه لي على اعتبار أنني لا أعرف شعره، وكأنّني لم أقرأ “انشر على لهب القصيدِ/ شكوى العبيد إلى العبيدِ”، مثلًا. ثم كان لقاء مع كاتب كان يسمع به للمرة الأولى، هو يحيى يخلف، فقد قال له صديقه في المكتب هذا الأستاذ يحيى، ونناديه (أبو الهيثم)، باسم ابنه، صاحب رواية “نجران تحت الصفر”، صدرت حديثًا، عليك أن تقرأها. فرفيقنا وأخونا أبو الهيثم روائيّ رائع. اقرأ روايته هذه. وأهداني الرواية.
كانت المرّة الأولى التي يقرأ فيها رواية لروائي فلسطينيّ بعد غسّان كنفاني. وبينما انشغل كنفاني بعوالم الشام والكويت ثم بيروت ومخيماتها، انشغلت رواية يحيى يخلف بجنوب الجزيرة العربية. من الرواية تعرّف على العلاقات داخل اليمن، وعلاقة السعودية بما يجري في اليمن.
ــ 2 ــ
قطع الطريق العسكريّ حتى وصل إلى بيروت. طريق تقطعه التنظيمات الفلسطينية المقيمة في دمشق، بلا حواجز ولا أي جوازات. دولة واحدة. هكذا رأى الشام ولبنان بلدًا واحدًا. وتساءل لم لا تكون الطرقات كلها هكذا، بلا حدود أبدًا؟! وصل بيروت خلال أقلّ من ساعتين، ومن دون توقّف سوى لإلقاء التحية على أفراد قوى منتشرة في مناطق عدّة على الطريق.
“في شهر حزيران/ يونيو 1982، وقع العدوان الإسرائيلي على بيروت ولبنان، فحاول الشابّ الالتحاق بالقوّات التي تحرّكت نحو لبنان للمساندة، لكن محاولاته باءت بالفشل”
استقبله الرفيق محسن بحفاوة، واصطحبه إلى مكان إقامته. كان المكان غرفة في مكتب لقيادة فتح. حاول أن يرفض لأنه ضد قيادة عرفات، لكنه لم يجد بديلًا، وكان يعتقد أنه منذ وصوله سيقابل ماجد أبو شرار، لكنه بدلًا من ذلك قابل ضابطًا في القيادة العسكرية، وطلب منه هذا القائد الالتزام بالأوامر التي سوف تصله من الأخ محسن. فكلّ حركة محسوبة عليه. ولن يتحرّك إلّا بحساب. وعليه ألّا يختلط بأفراد من التنظيمات، فهم يُكثرون من إشاعة الأكاذيب حول تنظيم فتح وقائده عرفات. بشيعون الشائعات حول خلاف عرفات مع ماجد أبو شرار الذي يرون فيه قائدًا مبدئيًّا، وليس براغماتيّا مثل عرفات. كانت وصايا القائد كثيرة، وظلّ هو صامتًا حيال ما رأى فيه أوامر عسكرية، وليس وصايا.
وضع حقيبته على السرير، وأخذ يتفحّص الغرفة الواسعة. الشباك يطلّ على بنايات، والبلكونة كذلك. ومن البلكونة، كان أوّل ما شاهده، وهو يتفقّد المكان، مجموعة فتيات يخلعن ملابسهنّ في ما يشبه حفلًا راقصًا. فتيات عابثات بلا رقيب أو حسيب. أهذه هي بيروت منذ البداية؟ تساءل بينه وبين نفسه… وظل متشبّثًا بمكانه. يراقب بشغف وشبق هذا الحفل البريء الصاخب. يُعاين باندهاش هذه الفتنة المفاجئة؟ لا يريد مفارقة المكان/ المشهد الغريب الفتّان.
انخطف المشهد منه بجرس الباب يدق. كان صديقه الأخ محسن. كان الأخ محسن مسؤول الاتصالات بين القيادة والمكاتب والمسؤولين. قال ما الذي جاء بك في هذه اللحظة. حدّق بـ: ماذا تفعل؟ قال: أحتفل وأرقص مع الفتيات العاريات. قال تعال لترى المدينة. وهبطا سريعًا.
كان شارع الفاكهاني مكتظًّا. هنا تنتشر مكاتب فتح، وبعض التنظيمات والفصائل الفلسطينية، على الأبواب مسلّحون تعرف انتماءاتهم من إشارة التنظيم. وهذه هي جامعة بيروت العربية، في ساحتها مجموعة من المحتجّين. هبطنا إلى مخيم صبرا وشاتيلا المكتظ بالبشر والمحلّات. هنا كاراج درويش المهجور، وهنا الملعب البلدي، الجامعة العربية، ومستشفى المقاصد. وهنا القرار السياسي والعسكري والأمني.
فتح ومنظمة التحرير بفصائلها كلها هي مقاومة شعبويّة وليست شعبيّة حتى…
خلال الأيّام الأولى لوجوده هنا، سمع كثيرًا عن ممارسات أزلام عرفات (أبو عمّار) وفسادهم وتشبيحهم، حتى ضدّ مواطنيهم الفلسطينيين، فضلًا عن اللبنانيين الذين احتضنوا المنظمة، وانتظموا في صفوفها، وقاتلوا معها، واستشهد أبناؤهم في معاركها.
وعدا عن السّماع، فهو قد شهد الحروب الصغيرة العسكرية التي يشنّها عناصر من حركة فتح ضد التنظيمات، بتهمة الخروج على القانون، “قانون فتح” المهيمنة، ولكن الغارقة في الفساد. من شبّاك مكتب فتحاوي تنطلق الرصاصات إلى مكتب تنظيم فلسطيني مجاور. ويقولون إن فتح تحافظ على الأمن والقانون، ويسقط الشهداء من الطرفين، مجّانًا وعبثًا، بل خضوعًا لمنطق سلطة الأقوى، قائد الجمهورية العتيدة.
جمهورية في داخل الجمهورية. هكذا كانت فتح، وهي تستلم زمام منظمة التحرير في لبنان، بعد خروجها، بل إخراجها، من الأردن. وهكذا كان عرفات، أبو عمار، لا يرى نفسه أقلّ من إله. كلمته لا تصير اثنتين. يهدد ويتوعّد، لكنه يتكرّم. يبذل المال شِمالًا ويمينًا. على عناصره كما على تنظيمات وفصائل. أموال الخليج، السعودية تحديدًا، التي تدفقت لإفساد “الثورة”، لا لمساعدتها.
ــ 3 ــ
كان الفتى ما يزال على قيد الاختبار لما يجري من حوله. تعلّم كثيرًا من شؤون الثورة (المقاومة)، وكان يسمّيها المقاومة، لأن الثورة أمر مختلف تمامًا. الثورة يلزمها فكر ناضج، أمّا فتح ومنظمة التحرير بفصائلها كلها فهي مقاومة شعبويّة، وليست شعبيّة حتى. مقاومة يحملها ويقودها ويرعاها الأخ القائد العامّ عرفات. ربّما يحاول استلهام أنموذج كوبا وكاسترو، في ظروف جدّ مختلفة. فقضية فلسطين ليست هي قضية كوبا، أو غيرها من الثورات.
ذات يوم، جرى الحديث عن موكب لعرفات سينطلق من مقرّه القريب، فأخبر الفتى صديقه الأخ محسن برغبته في مشاهدة عرفات عن قرب.
“شهد الحروب الصغيرة العسكرية التي يشنّها عناصر من حركة فتح ضد التنظيمات، بتهمة الخروج على القانون، “قانون فتح” المهيمنة، ولكن الغارقة في الفساد”
لم يسبق له أن رآه سوى مرة واحدة حين كان طفلًا، في نهايات أيلول الأسود، حين كان عرفات يختفي في جبل النزهة في عمّان، ويستعدّ للرحيل عنها بعد اتفاقيات الباهي الأدغم لرحيل المقاومة من عمّان. خرج الفتى لمشاهدة عرفات وموكبه. رأى الانتشار الواسع للمسلّحين. وتساءل لماذا يحتاج قائد “الثورة الفلسطينيّة” إلى هذه الحراسات كلّها؟
فجأة، وفيما هو ينتظر مرور الموكب، يتلفّت حوله شمالًا ويمينًا، استوقفه شابّان مسلّحان، وطلبا هويّته، كانا على قدر عالٍ من الفظاظة. ومن حقيبته أخرج جواز سفره الأردنيّ الذي يحرص على الاحتفاظ به في الحقيبة، وقدّمه لهما. أردني؟ كان سؤالهما. ماذا تفعل هنا؟ قال إنه في زيارة صديقه محسن في مكتب اتصالات القيادة. وكيف تثبت ذلك. صرخ لصديقه محسن لينقذه. صرخ مرّات، فأطلّ محسن من نافذة المكتب وأمرهم أن يتركوه، فتركوه. وفكّر ماذا لو لم يتدخّل محسن، كيف سيكون مصيره؟ جاسوس؟ والأهمّ، ضاعت عليه فرصة مشاهدة عرفات عن قرب. وراح يفكّر في وضع المقاومة ومصيرها في لبنان.
بعد مرور شهر على إقامته في بيروت، ومحاولات التسجيل في الجامعة، وقعت حادثة ثانية معه جعلته يحسم أمره ليعود إلى عمّان. طلب منه الصديق الأخ محسن أن يستلم مكانه على بدّالة الهاتف. ولم يكد يغادر، حتى جاء اتصال: ادّيني عبد الله. فوجئ الفتى بالصوت ذي اللهجة المصريّة. قال: مين حضرتك؟ جاءه الرد القاسي: إنت بتسألني، إنت مين؟ فين محسن؟ قال الفتى إنه ضيف عند محسن، وقد ذهب محسن وسوف يعود بعد دقائق، وأدرك أن المتّصل هو القائد العامّ. قال القائد بحزم وصرامة: اعتبروا نفسكم مسجونين.
وأغلق الهاتف.
وكانت تلك نهاية رحلة الفتى في بيروت. وكان يأمل أن لا تتكرّر حوادث أيلول الأسود!
ــ 4 ــ
بعد سنوات، وفي شهر أيّار/ مايو من العام 1981، وبعد تخرّجه من الجامعة، وجد الفتى/ الشابّ نفسه في الخدمة العسكرية الإجبارية، ضمن جيش التحرير الفلسطيني. وفي السنة الثانية من خدمته العسكرية تلك، وفي شهر حزيران/ يونيو 1982 وقع العدوان الإسرائيلي على بيروت ولبنان، فحاول الشابّ الالتحاق بالقوّات التي تحرّكت نحو لبنان للمساندة، لكن محاولاته باءت بالفشل. وكان يشعر بالحسرة وهو يراقب “جيش” المقاومة الفلسطينية تحمله السفن وتُوزّعه، تُبعثره في الأرجاء الأربعة من الأرض. وكان الفتى قد أصبح كاتبًا وشاعرًا وصحافيًّا يكتب في الصحف والمجلات العربية.
وبعد أحد عشر عامًا، وقعت كارثة أوسلو الكبرى. ثم كارثة انقسام غزة عن الضفة في عام 2006، وعدد من الحروب على غزّة، آخرها ما يجري هذه الأيّام.
وكان يا ما كان!
فكانت العودة إلى عمّان.