في سوريا اليوم العرب نوعان، ليس بينهم عرب سوريون بإخلاص إلّا القلة منهم. هنالك عرب تركيا من جهة، ومن جهة أخرى عرب إيران وولاية الفقيه. هما متناحران إلى أبعد حدّ ويكنّان لبعضهما البعض كل المقت والكراهية، إلا أنهما يتفقان معاً، لمرة واحدة، مثل السنة الكبيسة، على معاداة الكرد معاً والرغبة في سحقهم. ذاك يعادي الكردي لأجل سيده التركي، الذي يعاني من فوبيا الكرد، وهذا يعادي الكرد لأجل سيده( الولي الفقيه) الذي تؤرق انتفاضات الكرد في إيران عرشه، ويتخذ هذا العداء المشترك، الولائي، للاتباع شكل الدفاع عن عروبة سوريا وهويتها القومية عند تبريرها، وتلك مفارقة أولى. العرب السوريون يتبادلون الكراهية بينهم ويتقاتلون متجاهلين عروبتهم لأجل السيدين التركي والإيراني، ولا يتذكرون عروبتهم الأثيرة ولا يستدعونها إلا في مواجهة الكابوس الكردي الذي يؤرق أسيادهم، عندئذ تنتفض نخوة العروبة المجانية لديهم في موجهة الكرد، وفي الوقت نفسه تستبيح تركيا وإيران عروبتهم في قلب( العروبة النابض) وعفتها.
المفارقة الثانية، التي تكمن في تفكير وسلوك العروبي السوري، نستنبطها من قراءة التاريخ وتجاربه بوضوح صارخ، وهي تتمثل في أن العدو التاريخي للعرب والهوية العربية، الذي شكّل تهديداً وجودياً تاريخياً لم يكن متمثلاً في الكرد في أية برهة من برهاته، ولا حتى في إسرائيل، التهديد الذي يعدّ طارئاً في عصرنا، إنما كان على الدوام فارسياً وتركياً. ففي معمعة النزاع الجزئي مع إسرائيل نسي العرب وتغافلوا عن عدويهم التاريخيين، الترك والفرس، وتهاونوا نحوهما، وبالمقابل راحت العروبة، المسخة والمنحرفة، في الشام والعراق تصوّر الكرد بصفتهم طابوراً خامساً لإسرائيل، أو إسرائيل ثانية، ينبغي قمعهم وحرقهم وحتى إبادتهم. وتجاهلوا واقع أن هولاكو لم يتمكن من اقتحام بغداد ودمشق إلا بعد أن حيّد الكرد، كذلك فعل السلطان سليم الأول، وفعل ذلك جورج بوش، ولهذا يكتسب القول المنسوب للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أهمية استثنائية في هذا السياق، حين قال، إن الكرد يشكّلون خوذة العالم العربي، فلولا مقاومة الكرد في يومنا هذا لابتلع الترك والإيرانيون سوريا والعراق معاً ومُرغت العروبة فيهما تحت أقدام الطوراني والفارسي.
مفارقة ثالثة، مفارقة حكم الكردي. ودلالاتها العميقة، الحقيقية، غير المعلنة، تقول: لا أقبل أن يتساوى الكردي معي فيكون ندّاً لي في المشاركة السياسية، ولسان حال هؤلاء يترجمها بالقول( لا أقبل أن يحكمني كردي) إذن، كيف تفسّر إن أسوأ المراحل التي مرّت على بلادك، الأكثر كارثية ودموية على الجميع، الأشدّ استبداداً، هي تلك التي أستعبد فيها الكردي باسم العروبة وتنكّرت لوجوده، كيف تبرر ذلك؟ هل حكم القدر على الكردي أن يعيش أبدّ الدهر ويظلّ مقهوراً يدفع ضريبة فشلك في إدارة السلطة وفي العمران؟ هات لي، قدّم، نموذجاً معقولاً، وليس باهراً حكمت فيها باسم العروبة، وكان الكردي، وغيره، حرّاً ومساوياً لك في الكرامة.
وأخيراً، لمَ، حين تتباهى بتاريخك وانجازاته، تستعين بالنماذج التي حكم فيها غيرك، وكان معظم ممن أنجز فيه وأبدع من غير انتمائك؟ هل كان ابن سينا والفارابي وابن المقفع وابن خلدون، صلاح الدين الأيوبي، وحتى روّاد نهضتك في العصر الحديث، الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده، وأحمد شوقي والزركلي، ومعروف الرصافي ومحمد كرد علي، خير الدين التونسي … وغيرهم العشرات، هل كان هؤلاء عرباً؟ والحال أن الكثير من هؤلاء كانوا كرداً في زمن لم يكن قد تلوّث بعروبة البعث! حتى النماذج الأشدّ تكفيراً في تاريخك، أمثال ابن تيمية وابن صلاح، الذين تستلهمهم في تكفير الكرد وغيرهم لم يكونوا عرباً، إنما كانوا كرداً، كيف تبرر لنفسك أن تزهو بهؤلاء على الأمم الأخرى وتشمخ بإنجازاتهم، دون أن يكونوا من صلب هويتك، وفق المنطق المهترئ والرث الذي تتعاطى به وتفكر حين تتحدث عن مكانة الكردي وحقوقه؟
بالطبع لا ندعو، بإزاء هذا المنطق الأعوج، أن يحكم الكردي، ويُخضع العربي، كسبيل وحيد للخلاص من هذا التقهقر والفشل، الحلّ لا يكمن هنا بالضرورة. الحلّ جليّ يتمثل في شجاعة الإقرار بضرورة أن يتساوى البشر، مهما كانت درجة الاختلاف في الهوية والمعتقد بينهم، يكمن في الجدارة والكرامة الإنسانية، وأن يتمّ تبادل هذا الاعتراف صراحة في ترجمته السياسية والحقوقية، أيّ التساو في المكانة والدور وفي حرية الاختيار وتقرير المصير، الفردي والجماعي.