من يعيد قراءة واقع العالم العربي الموضوعي لما قبل”ثوراته الموبوءة”،بشكل عقلاني،سيستنتج بأنه كان يستدعي إتخاذ قرارالتغييرالسلس والديمقراطي بدءاً بالأصلاحات الدستورية في مناحي الحياة السياسية والاقتصادية و الإجتماعية،وذلك كي يستجيب لمتطلبات واقع الحياة المعاصرة وتطوراته .
وأول تلك المتطلبات،كان يجب القيام بتغيير آلية إنتقال السلطة التي كانت تتم بالعنف أوالتوريث منذ ما بعد وفاة رسول الأسلام مُحَمَّدعليه السلام مؤسس أول دولة عربية سياسية.
وثانيها كان يجب إعادة النظر بدساتيره الصفراء ووضع أخرى،لبناء علاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية ،أكثر ديمقراطية وأكثرعدلاًوتقدميةً عما سبق.
إلا إن القوى الأقليمية والنظم العربية المعادية للتغييرالحقيقي والجذري ،وخشيةً على مصالحها الضيقة وبتوجيه من قوى عالمية ،قد قامت بتحويل مسار دُعاة التغيير السلمي إلى “ثورات موبوءة”في بعض الدول،بدلت خلالها سلطة بسلطة من”المعارضة المسبقة الصنع”أكثر سوءاً وأكثر قمعاً عما سبقتها،وفي دول أخرى،شغلت مرتزقتها من القوى الظلامية والسلفية والمليشيات الطائفية المسلحة،وأثارت حروب أهلية،لتدمر ما كان يأمل أن يبنى عليه التغييروالتجديد والملبي لطموحات الشعوب المحقة .
تلك القوى والنظم هي نفسها التي كانت ولازالت تعيق إنجاز مهام التحررالوطني والاجتماعي بعد الإستقلال
،وأعاقت عملية بناءالدولة الوطنية الديمقراطية المدنيةالتعددية العلمانية،والتي-لو تمت-لكانت حافظت على التنوع الثقافي والقومي والديني في وحدة وطنية تتسم بالمساواة في الحقوق والواجبات فيما بين مكوناتها وأفرادها،وهي التي تتحمل المسؤلية المباشرة عما حدث من التدمير الممنهج للبنية التحتية،والمرفق بالقتل والتهجير وشظف العيش .
ولكن ذلك لا يعفي النظم اليسارية والقوى السياسية المتحالفة معها في السلطة،والتي كانت تحكم العديد من الدول العربية،فهي المسؤلة بشكل غير مباشرعما حدث،لأنها لووفرت في وقتها ديمقراطية إختيارالنظام السياسي والإقتصادي في بناء دولة المواطنة،والتي كانت من صلب مهامها النضالية،لَما حدث ما حدث من تدميرونهب الخيرات الممنهج بهذه السهولة،إلا إن بحفاظها على الإرث التاريخي المتهالك،وإقامة نظم سياسية شبه قبلية،وتناست بناء أسس الدولة الوطنية ودولة المواطنة الحديثة،وأدخلت العالم العربي في لجة الصراع فيما بين التيار اليساري القومي الذي رفع شعار الدولة الواحدة و”أمة عربية واحدة ” والتيار اليساري الماركسي إضافة لللصراع داخل اليسار القومي نفسه من جهة،ومن جهة أخرى فيما بين التيار اليساري بطرفيه والتيار الديني الذي رفع شعار”كتاب يحكم وسيف يحمي”وإعادة دولة الخلافة الإسلامية السنية الواحدة،والمفارقة قد حافظ التيارين القومي والديني وحتى الماركسي على حدود تلك الدول،برغم من أنها قد نعتتها بكيانات قطرية صنيعة الإستعمار.
ولقد فشل التيارين في تحقيق ما كان يطمح كل منهما إليه،بل أوصلوا العالم العربي للأجيال الحالية وهو أنقاض دول موبوءة ومسيجة ببطانة فاسدة وانتهازية مرتبطة بالخارج،تمنع الحاكم من الالتفات لليمن واليسار،وتحجب عن ناظريه الأفق،ولقد وصف البهلول تلك البطانة الفاسدة للخليفة هارون الرشيد كالتالي:”البطانة الفاسدة تفسد الرأي تماماً كما تفسدُ الأعضاءُ المريضةُ من البدن الرأسَ،وكما تميتُ الأغصانُ النخرةُ جذعَ الشجرةِ “.
لقد أدخلت تلك النظم والقوى السياسية العالم العربي اليوم في لجة صراعات عربية-عربية ذات طابع مذهبي،إضافة لزرع النزعة القومية المتعصبة في مخيلة الأجيال العربية إتجاه الشعوب التي شاركها العيش منذ الأزل على أرضه،ونعتتها بالأنفصاليين تارةٍ وتارة بإسرائيل الثانية،وحرمتها من كل حقوقها على إثر إتفاقية سايكس-بيكو،تلك التي تمسكت الحكومات العربية بنتائجها،ليعود أحفاد واضعوها اليوم مجدداً،ويستغلوها لإدارة الصراع والحروب في العالم العربي وعليه من أجل النفوذ وتوزيع تركته فيما بينهم، كما وزع أسلافهم تركة العالم العربي وشرق الأوسط التي كانت ضمن الإمبراطورية العثمانية “المهزومة “في الحرب العالمية الأولى وأقامت عليها كيانات غريبة عن العالم العربي والمناطق المجاورة لها .
…واليوم،وليس غداً،قد بات لزاماً على النخب السياسية في العالم العربي الحاكمة والغير حاكمة،وبكل توجهاتها الفكرية،أن تقتنع بأن عالمهم متنوع لا يشكل كياناً عرقياً ولا دينياً ولا مذهبياً واحداً ،ولا يمكن أن يوحده توجه
سياسي واحد،وبات لزاماً عليها أن تقبل هذا التنوع،وتتوجه لتأسيس نظم سياسية تتجاوزالإنتماءات الضيقة،وتتسع للتنوع الثقافي والتعددية الفكرية للجميع أفراداً و مكوناتاً ،ومساواتها في الحقوق والواجبات .
لأن الدولة ذات المُسمى العرقي أو الديني أو المذهبي لم تعد نافعة اليوم،ولن تسعف عالمهم مما هو فيه،بل قد تبدل جهة مستبدة بأخرى أكثراستبداداً،وقد تُدخل المنطقة في أتونِ حروب التطهير العرقي،والتي ستشمل الجميع بدون استثناء،وتدفعها للمزيد من الضعف والتشتت،وتتيح الفرصة للقوى العالمية والإقليمية المتربصة بأن تحقق مشاريعها التوسعية،وتعيد رسم خريطة العالم العربي وتوزيعه-بعد حسم الصراع والحرب الدائرة فيه وعليه-بين”المنتصرين” في نظامٍ عالميٍ جديد.
فلا مناص مما سبق،إلا بإنشاء حلف وطني داخلي متين يقوم على حماية المصالح الوطنية العليا للعالم العربي والشعوب التي تعيش في ظهرانيته،بدلاً من الأحلاف العرقية أو دينية أو المذهبية،لإن منطقة شرق الأوسط عموماً والعربية خصوصاً،هي بأمس الحاجة اليوم لبناء الدولة الوطنية على أسس مدنية وتعددية وديمقراطية وحقوق المواطنة الشاملة لكل مكونات المجمتع،والتمهيد للتكامل والاتحاد الحرالمعبرعن إرادة وحرية الشعوب في العالم العربي وشرق المتوسط بكل تنوعها،والتي تمتلك كل مقومات لأن يكون قطب عالمي لا يستهان به ،فبذلك فقط يمكن مواجهة القوى المخططة”لمشروع شرق الأوسط الجديد”،والتي أنتقلت اليوم من خطة أ و ب إلى الخطة”ج”.على اثر شرارة حرب غزة ولتقود الحرب الكبرى بالاصالة عن نفسها بدل الوكلاء التي انتهت مهامها الوظيفة ولتظهر على انها حرب الا،مان والتي كانت شراريها مقتل حجاج بيت المقدس .
فهل ستتدارك القوي اليسارية العلمانية في العالم العربي وشرق الاوسط ذلك ?وتتوحد في حلف وطني وتضغط على حوماتها لتصحيح المسار ومجابهة ما يحاك لشرق الاوسط عامة وللعالم العربي خاصة .