تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.

تتكرّر المفاوضات التي تجري للتوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، كل بضعة أسابيع، برعاية أميركية. وفي كل مرة، تبدي الولايات المتحدة تفاؤلًا لا علاقة له بالواقع بشأن إمكانية بلوغ اتفاق، ويبدي وزير خارجيتها أنتوني بلينكن انطباعه بأن إسرائيل توافق على المقترحات الأميركية، وأن حماس هي من تقف في طريق الوصول إلى اتفاق. وفي كل مرة، يتبين أن نتنياهو لم يعطِ موافقته على الصفقة إطلاقًا، ثم تعود الجهود إلى المربع الأول.

لقد تكرّر هذا المشهد شبه السوريالي إلى درجة أن الصحافة الإسرائيلية نفسها باتت تلقي اللوم على بلينكن وتصريحاته غير الواقعية، التي ساهمت بحسب ما تقوله هذه الصحافة في إفشال كل الصفقات الماضية. فما الذي يجري؟ هل بلينكن مفاوض فاشل؟ هل هو غير ضليع ولا مطّلع على شروط الطرفَين؟ أم إن الأمر أكبر من ذلك؟

لننظر إلى مواقف الطرفَين التي باتت شبه معلنة. يصرّ نتنياهو على أن أي اتفاقية يجب أن تتضمّن إعادة كافة الرهائن الإسرائيليين، الأحياء والأموات، واستمرار إسرائيل في السيطرة على معبر صلاح الدين/فيلادلفيا بين مصر وغزة ومحور نتساريم، الذي يفصل بين شمال غزة وجنوبها، والتحكم في من يستطيع العودة إلى شمال غزة من الفلسطينيين، ثم بعد أن يتحقق كل ذلك، يصرّ نتنياهو على استمرار الحرب على غزة حتى يتم القضاء نهائيًا على حماس.

يتساءل المرء كيف يمكن لحماس الموافقة على هذه الشروط التعجيزية، وخاصة الموافقة على إنهائها بعد إعادة كافة الرهائن. تصرّ حماس في المقابل على وقفٍ دائم لإطلاق النار وانسحاب إسرائيل الكامل من غزة باعتباره شرطًا لإطلاق سراح كافة الرهائن، وهي شروط منطقية، فما من طرف يوافق على القضاء على نفسه.

واضحٌ إذا أن نتنياهو يتصرّف وكأنه يرغب في التوصّل إلى اتفاق، وذلك إرضاءً لأهالي الرهائن وتجاوبًا مع الضغط المحلي والعالمي عليه، بينما يضع كل الشروط التي تجعل الوصول إلى هذا الاتفاق مستحيلًا، إذ تكمن مصلحته في إطالة أمد الحرب لأطول وقتٍ ممكن، تجنّبًا لمحاسبته من قبل الشارع الإسرائيلي وإنهاء حياته السياسية. ولم يعد هذا التكتيك خافيًا على أحد، بل تتناوله كل يوم الصحافة الإسرائيلية والأميركية والدولية.

من الواضح إذًا أن هذه السياسة المكشوفة ليست خافية على الولايات المتحدة، فما الذي يفعله بلينكن في المنطقة في جولاته المتعدّدة إذًا؟ أصبح جليًا أن استمرار الحرب لم يعد مقبولًا لدى شرائح كبيرة من الحزب الديمقراطي، بل بات ذلك يؤثر على مجرى الانتخابات الرئاسية. من جهة أخرى، لا ترغب إدارة بايدن في الضغط الجادّ على نتنياهو لإنهاء الحرب، لاعتبارات تتعلق بموقف الرئيس بايدن الشخصي المؤيّد لإسرائيل، ولعدم خسارة أصوات يهودية مؤثرة في الانتخابات.

ما يقوم به بلينكن أشبه باللعبة، فهو من جهة يحاول إعطاء الانطباع عن وجود جهود أميركية حثيثة للتوصّل إلى اتفاق، وهو يدرك استحالة ذلك، لإرضاء شريحة وازنة من المجتمع الأميركي تريد إنهاء الحرب، ومن جهة أخرى لا يمارس أي ضغط جادّ على نتنياهو، كوضع شروط على سبيل المثال على استعمال إسرائيل الأسلحة الأميركية، التي تضعها واشنطن على كل الدول الأخرى عدا إسرائيل، وذلك كي لا يخسر الحزب الديمقراطي تأييد شريحة أخرى من المجتمع الأميركي.

ثمة سبب آخر لتحركات الوزير بلينكن. لا ترغب الولايات المتحدة في أي توسيع إقليمي للصراع، وإذ تعطي الانطباع بأن التوصّل إلى اتفاق ممكن، فهي تعطي إيران ذريعة لعدم الردّ على مقتل إسماعيل هنية في طهران، وها قد مضى أكثر من ثلاثة أسابيع على اغتياله من قبل إسرائيل من دون ردّ إيراني، ما يسهم في تحقيق الرغبة الأميركية كما الإيرانية في عدم الانزلاق نحو مواجهة إقليمية.

الخاسر الأكبر من هذه اللعبة الأميركية والإسرائيلية هم أهل غزة، الذين استشهد منهم أكثر من 40 الفًا في ظل غياب أي بصيص أمل حقيقي لإيقاف الحرب في وقت قريب. وللأسف، إن لم تبدِ الولايات المتحدة الجدّية المطلوبة لإيقاف إسرائيل عن هذه الإبادة الجماعية، فإن فرص وقف إطلاق النار في المدى المنظور تبدو ضعيفة للغاية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.