ملخص
يعالج كتاب “باريس بحروف عربية” (سندباد-آكت سود، 2024) للباحثة الفرنسية المتخصصة في الموسيقى العربية وتاريخ الوجود العربي في فرنسا، كولين هوسيه، المكانة أو الدور الذي لعبته العاصمة الفرنسية في الفكر والآداب العربية، يوم كانت باريس مرجعاً أساساً لأجيال من المثقفين والسياسيين العرب الذين عاشوا ودرسوا ونشروا أعمالهم فيها، مقدماً لقرائه مجموعة قيمة من المعارف تتناول الروابط التي تجمع بين باريس والعالم العربي من خلال الكتاب والأدباء.
لعل كتاب كولين هوسيه عبارة عن رحلة في الزمان والمكان تعود بنا إلى فترات تاريخية قديمة ومعاصرة، وإلى أمكنة على ضفاف نهرالسين، وإلى مدن واقعة شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوبه في غوص جميل في النصوص والخيال وتفاصيل الحياة اليومية في المقاهي الباريسية، وفي أروقة الصروح الأكاديمية والفكرية والفنية التي تحتضن المثقفين والفنانين العرب الذين استقروا في مدينة ليست كسائر المدن، مدينة مبهرة تحفز الإبداع، تخلق كتاباً وشعراء ومفكرين تتجاوز شهرتهم بلدانهم الأصلية، لتتردد أصداء أعمالهم في جميع أنحاء العالم.
يدرس الكتاب خبايا هذه العلاقة الغنية بين الكتاب العرب ومدينة النور محاولاً الإجابة عن الأسئلة الآتية: كيف نظرت هذه الشخصيات الأدبية العربية إلى باريس، المدينة التي خيبت آمال كثر والتي كانت في الوقت عينه ملجأ المنفيين ومختبر المغامرين ومنهل الباحثين والساعين وراء المعرفة؟ ما العلاقات التي جمعت هؤلاء الأدباء العرب بالأوساط الأدبية والفنية والسياسية الفرنسية؟ وكيف ظهرت مدينة النور في أعمالهم؟ فباريس مدينة ملهمة، كثيراً ما احتفظت بجاذبية ميزتها عن سائر المدن الأوروبية منذ القرن الـ18. هي “روما الجديدة” و”عاصمة التنوير” التي أضحت نقطة الارتكاز لشخصيات ما زال التاريخ يذكر أسماءها كالعلامة جبرايل الصهيوني وهو راهب ماروني إهدني استدعاه عام 1614 الملك لويس الـ13 ليكون له مترجماً خاصاً. أقام الصهيوني في باريس من عام 1614 إلى عام 1642 وأسهم في تأسيس أول مطبعة عربية في العاصمة الفرنسية، فضلاً عن مشاركته في ترجمة كتب إلى اللغتين الفرنسية واللاتينية، وإعطائه دروساً في لغة الضاد للمستشرقين والسفراء وممثلي المملكة الفرنسية في الشرق الأدنى.
تقول هوسيه إن الصهيوني، كغيره من العلماء العرب، تم إغفال دوره من لدن المستشرقين الفرنسيين، الذين نسبوا الفضل لأنفسهم في كل الأعمال القيمة التي قام بها، مقللين من أهمية دوره ودور غيره من التراجمة واللغويين والأدباء الذين أسهموا في نقل آداب الحضارة العربية إلى اللغة الفرنسية، مدعين أنهم كانوا مجرد “مصححين” أو “مدققين لغويين”.
هكذا، أصبح المستشرق أنطوان غالان (1704-1717)، مشهوراً بترجمته الفرنسية لـرائعة “ألف ليلة وليلة”، على رغم أن عديداً من القصص والحكايات الأكثر شهرة التي لم تكن في النسخة الأصلية للكتاب، مثل حكايات “علي بابا” و”السندباد” و”علاء الدين”، تعود إلى حنا دياب، الشاب الحلبي الذي تعرف إلى غالان في باريس التي وصل إليها بوصفه مترجماً ومساعداً لبول لوكا، موفد وزير الشرق في جولاته على المدن العربية.
وقد استعان به غالان في استكمال قصص الليالي الناقصة وفي ترجمتها إلى اللغة الفرنسية، والذي مكث مذاك في ظله. وهناك روفايل زخور، القس السوري والمترجم الشخصي لنابليون بونابرت خلال حملته على مصر، الذي تم تعيينه أستاذاً مساعدا للغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية التي أنشئت في باريس عام 1795، وغيره من الأدباء والكتاب من رعايا السلطنة العثمانية الآتين من ولايات مصر وبيروت وطرابلس وحلب، الذين استفادوا من التجارب الفكرية والشخصية التي تقدمها مدينة النور، مع استمرار اهتمامهم بأوطانهم الأصلية. وقد سعت الكاتبة إلى التأمل في هذه العلاقات من أجل فهم أفضل لإرث القرون الماضية ولإظهار التناقضات والالتباسات التي اكتنفت هذه العلاقات على مر التاريخ.
تستعرض الكاتبة إذاً التفاعلات بين باريس والمثقفين العرب، بدءاً من أوائل التراجمة الشوام وصولاً إلى الكتاب المعاصرين حاملي الجنسيات المزدوجة، متسائلة عن الدور الذي لعبته فرنسا عموماً والعاصمة خصوصاً في حياتهم وأعمالهم، كاشفة عن وجوه هذه المدينة المتعددة في كتابات هؤلاء المؤلفين والمفكرين، مسلطة الضوء على مكانة باريس المحورية في أدب يستمد جذوره من الجانب الآخر للبحر الأبيض المتوسط.
حكايا غير معروفة
تدرس كولين هوسيه هذه العلاقات وفقاً لتسلسل وقوعها الزمني. المقدمة تشبه سيرة ذاتية من 11 صفحة. فيها تتحدث الكاتبة مطولاً عن “حياتها وأعمالها”، منذ ولادتها في مقاطعة بريتاني حتى انتقالها إلى باريس وانجذابها لدراسة المشرق العربي أو ما عرف تاريخياً باسم بلاد الشام الممتدة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط حتى حدود بلاد الرافدين، ساردة حكايا غير معروفة عن الأماكن والأشخاص، موردة اقتباسات مؤثرة وتحليلات تلقي ضوءاً جديداً على الارتباطات القائمة بين باريس والعالم العربي مع الالتفات إلى التواريخ والأحداث السياسية والثقافية التي حصلت في العاصمة الفرنسية منذ 13 قرناً.
يقع الكتاب في خمسة أجزاء مقسمة إلى 12 فصلاً. في الجزء الأول، تحاول الباحثة رصد ملامح “الافتتان المتبادل” بين العالم العربي والعاصمة الفرنسية منذ القرن السابع، بدءاً بالفيل الأبيض الذي أمر الخليفة العباسي هارون الرشيد بإرساله ضمن مجموعة من الهدايا الثمينة والغريبة إلى بلاط الإمبراطور شارلمان، ملك الفرنجة، في لحظة بارزة شديدة الرمزية من تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب، مروراً بدروس اللغة العربية التي أعطيت في المعاهد الملكية الفرنسية ودور المدرسة المارونية منذ إنشائها في روما عام 1584، وإعدادها أجيالاً من الكهنة المتعلمين والمترجمين الذين تولوا إنشاء المدارس وتثقيف العقول ونقل الكتاب المقدس ونشره في لغات عدة. تعيد هوسيه أيضاً وبدقة، سرد قصص المفكرين الفرنسيين الأوائل الذين اهتموا من باريس بالثقافة العربية الإسلامية والمسيحية وبالعرب الموجودين في العاصمة الفرنسية، حتى ولو كان حضورهم عابراً.
تذكر هوسيه البارون سيلفستر دو ساسي (1758-1838) الملقب بـ”شيخ المستشرقين الفرنسيين”، الذي عمل في معهد اللغات والحضارات الشرقية في باريس. ولئن ركزت على استفادة هؤلاء المستشرقين الفرنسيين من المكاسب الرمزية والمادية التي حصلوا عليها بفضل جهود المترجمين العرب، فإنها تلفت انتباه قرائها، كما سبق وأشرت، إلى الصعوبات التي واجهها هؤلاء للاعتراف بجهودهم ولنيلهم مناصب تدريس اللغة في المعاهد والجامعات الباريسية.
وتتوقف كولين هوسيه أمام القرن الـ18، باعتباره نقطة تحول في تاريخ العلاقات بين المثقفين العرب والفرنسيين. فتشير إلى النظرة الفضولية والانتفاعية تجاه البلاد العربية مع تزايد اهتمام فرنسا بالسيطرة على أراضي الشرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، لا سيما بعد قيام الإمبراطورية في فرنسا بعيد الثورة التي أطاحت الملكية عام 1789 وحملة نابليون بونابرت على مصر.
مدينة النور
وإذ تغوص الكاتبة في درس العلاقات الأولى غير المتوازنة بين باريس والمثقفين العرب، فإنها تشدد على تحولات “المؤسسة الباريسية” وانتقالها من “طالبة للمعرفة” إلى “مقدمة لها”. ففي حين كان المثقفون القادمون إلى باريس من شمال أفريقيا والشرق الأوسط يسهمون في بناء صورة للشرق أحيت غناه الثقافي والأدبي الذي امتد لآلاف السنين، بعيداً من الصورة التي رسمها الاستشراق الغربي عن العالم العربي وراقصاته وصحاريه وجماله، ونقلوا لغاتهم وتراثهم ومعارفهم إلى الغرب. وبات المثقفون العرب في القرن الـ19 يأتون إلى مدينة النور لاكتساب المعارف والعودة بها إلى ديارهم.
في هذا السياق يجيء كلام هوسيه عن المصري رفاعة الطهطاوي (1801-1873) الذي اختير ضمن بعثة ضمت 40 طالباً أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة عام 1826. وما كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” إلا تعبير عن انبهاره الكبير بالتمدن والعلوم والفنون والآداب الفرنسية التي أراد نقلها إلى بلاده. وكذلك فعل الكاتب قاسم أمين (1863-1908) الذي ارتبط اسمه بالدفاع عن حقوق المرأة بعد نيله منحة لمتابعة دراساته الحقوقية بين مونبلييه وباريس التي غيرت حياته جذرياً، إذ تمكن من التعرف إلى تطور الحركة الفكرية الفرنسية، لا سيما على أسلوب التعامل مع الفتيات والنساء الأوروبيات، وقدرتهن على المطالبة بحقوقهن، وشغفهن الدائم بالعلم والمعرفة ومطالبته بتعليم وتحرير المرأة المصرية.
اقرأ المزيد
تجليات باريس في الأدب العربي كما يستجليها خليل الشيخ
باريس تحتفل بالذكرى الـ80 على تحريرها من “النازي”
وتزامناً مع بدء مصر في عملية الدخول في الحداثة والتمدن الغربي، أصبحت العلاقات بين باريس والعالم العربي أكثر غموضاً. على هذا المستوى من التحليل، تتحدث كولين هوسيه عن مفارقة مزدوجة قوامها “المفارقة الفرنسية في الافتتان بالثقافة العربية واحتقار من يجسدونها، والمفارقة العربية في رؤية فرنسا كعدو استعماري تجب محاربته ونموذج يجب اتباعه”.
لكن ذلك لم يمنع برأيها المثقفين والأدباء والفنانين العرب في أوائل القرن الـ20 من أمثال جلال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين ونجيب العازوري وغيرهم من الإقامة في باريس. لكن النطاق الاجتماعي للعرب توسع في النصف الثاني من القرن الـ20 مع بدايات الهجرة العمالية القادمة من شمال أفريقيا. وتقول الكاتبة إن باريس، مع نيل معظم الدول العربية استقلالها، حافظت على دورها كملاذ للمعارضين السياسيين، لكنها استمرت في الوقت عينه في استقبال عديد من الديكتاتوريين. ولا تتردد هوسيه في الحديث عن بعض النساء العربيات اللاتي أقمن في فرنسا ودورهن في حركة المثاقفة كفوزية أسعد وغيرها من الأديبات الرائدات.
خصصت الكاتبة فصلين صغيرين للمغرب العربي. في الفصل الأول، ذكرت المقاومة الجزائرية مع فرحات عباس والمقاومة المصرية. وفي الفصل الثاني، لمحت بصورة سريعة إلى الأدب الجزائري والشعر القبائلي خلال فترة ما بين الحربين العالميتين وحرب التحرير الجزائرية بعد الاستعمار الفرنسي الذي دام 132 عاماً.
مما لا شك فيه أن كولين هوسيه غيرت في كتابها الدينامية التي اتسمت بها المقاربات التقليدية لموضوع الشرق العربي والتي كانت دوماً من وجهة نظر غربية. إن كتابها “باريس بالحروف العربية” هو دعوة إلى حوار ثقافي مشترك واحتفاء بقوة الكلمات التي تتجاوز حدود اللغات في استكشاف للهويات المتعددة. من خلاله يدرك القارئ أن باريس لعبت ولا تزال تلعب، دوراً مهماً في حياة عديد من الفنانين والمثقفين والكتاب العرب. ولعلها تعد منذ بداية القرن الـ21 “امتداداً للذات العربية”، لكونها المدينة التي رغب كثر في وجودها في بلادهم، بحيث أصبح الحديث عنها حديثاً عن الذات ومتاهاتها.