ألقى الأستاذ عبد الفتاح كيليطو محاضرة في قسم اللغة العربية وآدابها في “جامعة الملك سعود” أطروحتها الرئيسية “الرواية العربية ولدت لتتحدث عن أوروبا”. وهذه أطروحة سوف أتناولها بالنقاش في وقت لاحق. أما الآن فسأثبت عكس ما ادعاه د. كيليطو في نفس المحاضرة، ومفاد هذا الادعاء أن “الرواية ترفض السجع، وترفض المحسّنات البديعية، وترفض اقتباس أو إدراج أيّ بيت شعري. لا تحبّ الرواية الشعر إطلاقًا. يعتبرون بيتًا من الشعر في الرواية قلّة ذوق”. ثم توجه بهذا السؤال إلى مستمعيه في المجلس: “هل تعرفون رواية فيها بيت من الشعر؟ لا. أو قليلًا جدًّا جدًّا جدًّا”. وقد جاء هذا الحكم خلال حديثه عن رواية محمد المويلحي الشهيرة “حديث عيسى ابن هشام” التي اعتبرها مجموعة من المقامات وليست رواية. لقد أثقل المويلحي نصّه فعلًا بالسّجع وأساليب المقامة والأشعار بحيث أن هذا المزج أبعدها عن جنس الرواية ببنيتها السردية المعروفة والمتعارف عليها. لكن أن يقول: “لا تحبّ الرواية الشعر إطلاقًا” و”هل تعرفون رواية فيها بيت من الشعر؟ لا. أو قليلًا جدًّا جدًّا جدًّا”، فهذا ما سنبيّنه في هذه المقالة القصيرة. إذ رغم التناقض الظاهر بين جنسي “الشعر” و”الرواية”، كما هو معروف في نظرية الأدب عمومًا وفي نظرية الأجناس الأدبية خصوصًا، بين الشعر والنثر باختصار، منذ أرسطو إلى اليوم؛ عُرف الشعر بلعبه باللغة بينما عُرفت الرواية بلعبها بالخطابات من خلال تنسيق تعدّد أصواتها ولغاتها وعرضها داخل فضاء من التخييل. إن وضع الشعر داخل الرواية، أو عكسيًا، وضع الرواية داخل الشعر، تثيران نقاشًا ساخنًا، هو في النهاية يؤدي إلى الحديث عن صفاء الأنواع، أو نفور نوع من نوع آخر، مثلما أوحى الأستاذ كيليطو إلى ذلك. ويزيد في تأكيد أطروحته “حديث عيسى بن هشام ليست أول رواية عربية، لأنه نص ظل بين بين. في هذا الكتاب عناصر من المقامة وعناصر من الرواية”.
هناك جنس جديد محيّر هو الآخر “رواية- قصيدة”. يقدم تصنيف “رواية- قصيدة” نفسه بالنقد السليم باعتباره تناقضا لفظيا، ويسائل علم التصنيف في حقل تصنيف أجاس الأدب. هناك نصّ معروف لـ أ. بروتون عنوانه “نادجا” صدر سنة 1928، كما أصدر في 1932 “المزهريات المتحاورة”. وبعدها في 1937 أصدر الجزء الثالث “الحبّ المجنون”. وهو الجزء الثالث من الثلاثية. في رسالة إلى جان بولهان بتاريخ 2 ديسمبر/ كانون الأول 1939 أعلن بروتون أنه يرغب في “جمع الأعمال الثلاثة تحت غطاء واحد”. وهي كلها نصوص غير قابلة لاختزالها إلى رواية أو دراسة أو قصيدة أو إلى أي جنس أدبي معروف.
“التداخل بين الشعر والرواية لا يقتصر على مجرد اقتباس أبيات شعرية، بل يتعداه إلى بناء عوالم روائية كاملة تستلهم الشعر وتتنفسه. فالشعر في الرواية ليس حلية أو زينة، بل هو في كثير من الأحيان عنصر بنائي يساهم في تشكيل النص وتعميق دلالاته”
تعيش الأجناس الأدبية اليوم عصرًا ذهبيًا. صحيح أن عدد الأعمال “المفتوحة” كثير جدًا، وهي تسائل التّصنيفات، مما يضخّم من حيرة الناشرين، والكتاب والنقّاد، أحيانًا (مثلما هو وضع كيليطو اليوم). وأيضًا، أمام الصعوبة غير المحتملة في جمع أعمال هنري ميشو، فرنسيس بونج أو إدموند جابيس في فئة أجناسية معينة، وبعض الكتب المدرسية أو تواريخ للأدب تفضل جمع مؤلفيها في فئة “المبتكرون”، بمعنى، في العموم، في فئة “اللامصنّفون”. لكن مثل هذا النهج، المبرر طبعًا، لا معنى له إلا لأن مفهوم الجنس الأدبي نفسه لا يزال قائما ويفرض نفسه بقوة، الشعر يصنف في نوع “الشعر” والرواية تُصنّف ضمن نوع “النثر”.
أما إذا أردنا ذكر الأعمال الخارجة عن التصنيف/ اللامصنفة، فإن حديثنا سيطول إلى ما لا نهاية. لكن في هذا المقام نذكر رواية عربية قصيرة للبحريني فريد رمضان “هنا الوردة هنا نرقص”، وقد أصدرتها في البداية مجلة “الأقلام العراقية”، قبل صدورها في كتاب، ورواية “العشاء السفلي” للمغربي محمد الشركي. لكن هذا الجنس الأدبي “الزائغ” وجد نفسه أكثر في “المنتزه” للفرنسي فيليب سوليرز، وهو سردٌ خطيٌّ وتحليلي ومؤثّر، قيل عنه إنه “يمتلك كل الأسباب لإرضاء الهواة”، برومانسية جافة، يتبع سيمفونية من النثر تشير، من خلال الخلط المنظّم بمهارة بين الملاحظة والذاكرة والخيال والحلم والهيمنة المتحكمة في الأسلوب، وهذا ما يمكن أن يحيل إلى م. بروست (البحث عن الزمن الضائع) أو أ. بروتون (في نادجا) ومالارميه (في أناشيد مالدورور) وربما إلى ريلكه أيضًا. لذلك تمّ تصنيف “المنتزه” لسوليرز من طرف المؤولين باعتباره “قصيدة رومانسية”، لكنها قصيدة أكثر منها رواية. ينتهي الأمر بالشخصيات في “المنتزه” بتحرير نفسها بشكل أو بآخر من الغموض الانطباعي حيث الزمان والمكان غير واضحين، تتجول بين اليقظة والحلم.
لكن مغامرتها ميتافيزيقية. أما شكل القصة، وبناء الفقرات في مقاطع، وربطها بالتشبيهات الزلقة للصور، والتذكر، فيجعلها خارج تصنيف الشعر الغنائي. وقد قال فيليب سوليرز عن كتابه: “إن السارد في “المنتزه” هو كاتب يريد الكتابة ولكنه يتحدث بدلًا من ذلك عن فعل الكتابة”. كان المؤِلف يبلغ من العمر 25 عامًا فقط عندما حصل على جائزة “ميديسيس” سنة 1961 عن هذا العمل الذي شجبه أولئك الذين عبّروا عن أسفهم على رؤيته وهو يدشّن طريق الرواية الجديدة. ثم اتُّهم بأنه “’لم يف بوعود كتابه السابق’، بل اتهم حتى ’بالخيانة’. لا توجد جداول قانونية منقوشة في الرخام تحدّد ما هي الرواية أو القصيدة. لكن القارئ بلا شك لديه تخوف بديهي منه…” (جيروم كابو).
والآن نطرح، أمام عيني الأستاذ عبد الفتاح كيليطو، مدوّنة خاصة بالرواية العربية التي ربطتها بالشعر علاقة غرام:
في الصفحة الأولى من رواية “العصفورية” (1999) لغازي القصيبي نجد بيتًا للمتنبي: وتولّوا بغصّة كلهم منه/// وإن سرَّ بعضهم أحيانا (المتنبي). وحين نتقدم في القراءة نجد أن رواية القصيبي مليئة بالاستشهادات بالمتنبي: وكلّ العداوات قد تُرجى مودّتها/// إلا عداوة من عاداك عن حسَد. إضافة إلى ذكرِ عاشقٍ لجبران خليل جبران، أحمد شوقي (الذي قال عنه إنه لم يكن يحسن إلقاء شعره، فكان يلقيه عنه آخرون)، البحتري، شكسبير، أحمد رامي، عمر الخيام: “لا تشغل النفس بماضي الزمان//// ولا بآتي العيش قبل الأوان”… ونجد رواية “الوباء” لهاني الراهب (ط2، 1988) مليئة بالأبيات الشعرية. ونفس الأمر مع رواية “آخر الرعية” للتونسي أبو بكر العيادي و”ترياق الذاكرة” (2022) لنور علي الرماحي؛ أما الروائي السوري خليل صويلح فعنوان روايته “دع عنك لومي” (2015) مقتبس من قصيدة لأبي نواس: “دع عنك لومي فإن اللّوم إغراء//// وداوني بالتي كانت هي الدّاء”.
كما اقتبست الروائية التونسية درّة الفارع “أخفي الهوى” (2022) من بيت للشاعر المتصوف الشهير ابن الفارض الملقب بـ”سلطان العاشقين”: أخفي الهوى ومدامعي تُبديه//// وأميته وصبابتي تحييه.
ورواية “مفترق المطر” (1983) ليوسف المحمود، تعتمد في أغلبها على السرد الشفهي. وهناك فصل يتحدث فيه السارد عن شاعر من مجايليه بدون أن يذكر اسمه. وقد يظن أنه يتحدث عن الشاعر حامد حسن. وقد أشاد بها روائيون عرب مثل الطيب صالح ونبيل سليمان. وفي “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” (2012) لطارق إمام يكتب ألكسندر سينجوبوليس، العشيق الأخير للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، رواية عنه في السر، لكن الشاعر المحتضر، يقرأ الرواية في السر أيضًا، ليعيش انقسامًا عنيفًا بين ذاته الواقعية ونظيرتها المتخيلة، طارحًا اقتراحاته وتعديلاته للرواية التي يجب أن تكون سيرته. وفي السيرة الذاتية “وتحملني حيرتي وظنوني” يحيل المؤلف إلى بيت للمعري: “أما اليقين فلا يقين//// وإنما اجتهادي أن أظن وأحدسا”. أما الكتاب السردي لأحمد المديني “نصيبي من باريس” فهو إحالة مباشرة لبيت للمتنبي: “نصيبك في حياتك من حبيب//// نصيبك في منامك من خيال”.
“العلاقة بين الشعر والرواية تتجاوز حدود الاقتباس والتضمين إلى علاقة عضوية أعمق، فكثير من الروائيين العرب جاؤوا من رحم الشعر، وظلت لغتهم السردية محتفظة بشاعريتها وإيقاعها الخاص”
وكتب المغربي بنسالم حميش رواية بعنوان “معذبتي”، وهي من وحي بيت للسان الدين بن الخطيب: جاءت معذبتي في غيهب الغسق/// كأنها الكوكب الذري في الأفق. وللكاتب السوري نبيل سليمان عدة روايات جاء فيها من الشعر العديد من الأبيات، وهي: “مدارات الشرق” و”تحولات الإنسان الذهبي”. وقصته “قيس يبكي” تحيل مباشرة إلى الشاعر قيس بن الملوح الملقب بـ”مجنون ليلى”. وللبناني حسن داوود رواية “نقِّل فؤادك” وهو اسم مأخوذ من بيت لـ أبو تمام: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى//// ما الحب إلا للحبيب الأول. وللكاتب المصري خيري شلبي رواية بعنوان “وكالة عطية” استأنفها بأغنية مصرية شجية بعنوان “أغنية القمر”، وله رواية أخرى بعنوان “إسطاسية” اقتبس في صفحتها الأولى بيتين شعريين للشاعر المصري بيرم التونسي:
“حطيت على القلب إيدي/// وانا باودّع حبيبي
وأقول يا عين اسعفيني/// يا عين وبالدمع جودي”…
وللمصري جمال الغيطاني أيضًا رواية بعنوان “خُلسات الكرى” اقتبس في صفحتها الأولى من الشعر بيتًا للحلاج يقول:
“نظري بدءُ علّتي/// ويحَ قلبي وما جَنَى
يا معين الضنى عليْ///يَ، اعنّي على الضّنى”
وننهي بروايتين: الأولى للمغربي حسن أوريد “رباط المتنبي”، وهي مبنية على سيرة الشاعر الذائع الصيت، والثانية للأردني تيسير سبول “أنت منذ اليوم”، وهي قصيدة هجاء طويلة للأنظمة العربية بعد هزيمة 67.
وهناك أمثلة عديدة من الرواية العالمية تقف في مقدمتها “رباعية الإسكندرية” للورنس داريل، وفيها فصول بليغة وممتعة عن شاعر المدينة كفافيس.
بعد هذه الأمثلة العديدة لا يمكن إلا أن نؤكد، عكس ما ذهب إليه الأستاذ عبد الفتاح كيليطو، أن الرواية أخت الشعر، وحتى إن فرّقت بينهما التصنيفات الأكاديمية فإن الصبابة والشوق يجمعان بينهما.