خارج الأوهام، يعرف الأمين العام لـ”حزب الله” أن محورية غزة كقطاع ممانع انتهت واقعياً، وأن وقائع حربها الراهنة تخوضها إسرائيل بنمطية “المشاغلة” التي افتعلها الحزب في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وأن إسدال الستار عليها هو في يد بنيامين نتانياهو الذي لم يشف بعد من دماء الفلسطينيين ليس أكثر.
عندما كتب الأديب الفرنسي موليير مسرحية “مريض الوهم”، لم يكن يدرك أن الكثير من اللبنانيين سيصيرون “أرغان” آخر، وهم ينتظرون الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله على وهمين بعد مأساة “مقتلة البايجرز”.
الوهم الأول تنكبه الحزب وبيئته المحكومان أصلاً بالحماسة المفرطة من جهة، وبـ “قدسية” سيدهما من جهة ثانية. وهؤلاء بنوا وهمهم الراهن على “ثأر”، هو للمناسبة سليل ثارات كثيرة، وعلى اعتقاد يتلاشى أوانه كل مرة.
السيد نصر الله لن يذهب إلى حرب شاملة تتقاطع مع حماستهم.
طبعاً لن يشعر هؤلاء بالخيبة مما آل إليه خطاب أمينهم العام. هم أصلا مسكونون بالحماسة اللحظية المتأتية من حدث مأساوي من مآسي الحرب، كما بالخوف الدائم منها. وهذا بحد ذاته “مرض” غالباً ما حاولوا رتقه بالوهم، على أن تبقى مهنة تبديده، كما مخاتلة الحماسة من دون الركون إلى الخيبة على عاتق نصرالله. وهذه مهمة يتقنها الرجل الذي لم تخنه القدرة عليها في كل مرة.
الوهم الآخر، وهو الأعمق والأشد سذاجة، تبناه لبنانيون من خارج بيئة الحزب، وعلى خصومة مفترضة معه. خسائر الأخير عسكرياً ومعنوياً في هذه الحرب، وهي ثقيلة بمعرفتنا وباعتراف نصرالله الأخير، أفضت إلى وهم ثقيل لديهم افترضته هذه الخسارات، فاحتكموا إلى الوهم غالباً، والأمنيات تخففاً، كدافع عند الأمين العام إلى القطع بين حربي الجنوب وغزة، والنزوع إلى وقف المأساة الجنوبية، وطبعاً مع مسحة وجدانية غلفت هذا الوهم بأثر المقتلة الأخيرة التي وقعت على الحزب وبيئته، والانغماس العاطفي اللبناني شبه الجمعي بها.
في المحصلة، انتظر الوهمان نصرالله، وكما لو أن الأخير كرجل حرب، له فيها ما له، وعليه فيها ما عليه، هو صانع حتميات تاريخية، فيما إشاحة النظر عن الشاشة، ونحو الشرق، وحده يفضي إلى فهم حقيقي للحتميات ومآلاتها. هناك في طهران التي لم يجف كلام مرشدها الأعلى عن الانسحاب التكتيكي أحياناً، وموسكو التي بعث منها الإيرانيون والروس بالأمس، وبالشراكة، آخر الرسائل له عن الحرب الراهنة وسياقها.
لا حرب شاملة عند “حزب الله”، ولا انسحاب من المشاغلة الراهنة في الجنوب، هما أقصى ما توفر لوهم المتحمسين، كما لوهم كارهي حرب تشتبك على ناصيتها أيادٍ ممانعة كثيرة من لبنان إلى العراق إلى اليمن، تبقى فوقها يد إيران.
خارج الأوهام، يعرف الأمين العام لـ”حزب الله” أن محورية غزة كقطاع ممانع انتهت واقعياً، وأن وقائع حربها الراهنة تخوضها إسرائيل بنمطية “المشاغلة” التي افتعلها الحزب في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وأن إسدال الستار عليها هو في يد بنيامين نتانياهو الذي لم يشف بعد من دماء الفلسطينيين ليس أكثر.
وغالب الظن أن نصرالله يعرف أيضاً أن مشاغلة نتانياهو في غزة تتماهى مع تصعيد متواترعلى جبهة الشمال، التي يقف فيها رئيس حكومة إسرائيل معها على الضوء الأصفر.
والحال هذه، تبدو حرب “حزب الله” في راهنها موتاً وبؤساً لبنانيين في وقتٍ ضائع، ويكثفها نصرالله بحثاً عن نصر لن يأتي على الأرجح قياساً على الوقائع الميدانية التي يعيشها حزبه، وآخرها “مجزرة البيجرات”، والأهم بالخط الأحمر العريض الذي رفعته إيران أمامه، وأمام شموليتها.
كان الأمين العام لـ”حزب الله “، وفي سوابق عن حربه الراهنة، صانع حقائق كثيرة، وكان الانسحاب الإسرائيلي في 25 آيار/ مايو أكثرها واقعية. راهناً يتبدى نصرالله أيضاً كصانع أوهام.