عرف العالم فن الكوميديا منذ القدم. إذ تعددت أشكال وأنماط هذا الفن بتعاقب العصور وباختلاف المُجتمعات والثقافات، إلَّا أنَّه ظهرت أنماطٌ مُحددة من الفن الكوميدي اتخذت طابعاً عالمياً عابراً للثقافات والمُجتمعات المحليّة التي نشأت فيها أول مرة.
لن أتحدث هُنا عن الفنون المسرحيّة اليونانيّة القديمة، بل سأركز على أنماط أخرى شهدتها مُعظم المُجتمعات والثقافات.
فن السرك: هو أداءٌ فني فيه جوانبٌ هامّة من الحس الكوميدي. إذ يسعى لاعب السيرك إلى إثارة استغراب ودهشة المُشاهدين من خلال حركاته البهلوانيّة المُختلفة، والتي تحبس الأنفاس نظراً لخطورتها وخروجها عن المألوف، ليبعث من خلالها البهجة في نفوس الجمهور ويحملهم على الضحك.
المُهرج: شخصٌ يرتدي ملابس مُعينة يختارها بعناية، ويقوم بحركاتٍ مدروسةٍ ومُعدَّةٍ مُسبقاً، تبعث على الضحك. هي شخصيّةٌ مُحببةٌ لدى الأطفال بالدرجة الأولى، إلَّا أنَّها تخاطب الكبار أيضاً بحسب الموضوع.
فمثلاً، عرفت السينما العالميّة شخصيّة المُهرج من خلال أدوار “مستر بين”، الذي كان يقوم بأداء حركاتٍ صامتة مُثيرة للضحك موجهة للصغار والكبار على حدٍ سواء.
أمّا الشاشة السوريّة فقد عرفت شخصيّة “غوار الطوشة”، بأعماله الكوميديّة المُتعددة: صح النوم، مقالب غوار، حمام الهنا وأعمال أخرى.
شخصيّة غوار كانت مُصَمَّمَة لإثارة الضحك من خلال قصصه المُسليّة التي اتسمت بدرجةٍ جادة غير سطحيّة من الكوميديا، والتي كانت موجهة للصغار والكبار أيضاً على حدٍ سواء.
لم تعرف الشاشة الكُرديَّة إلَّا مؤخراً شخصياتٍ من هذا التصنيف. لعل أنَّ اسم “بافي طيار” ومجموعته “طيارو” و”أونسي عامودي” أول ما يتبادر إلى الأذهان. تليها شخصيّة “شيخو” في مُسلسلٍ عرضته القناة التركيّة السادسة الناطقة بالكُرديَّة حمل اسم “جيران جيران”.
أمّا في عصر التيكتوك فقد اختلف الأمر كثيراً.
يسعى “التيكتوكر” إلى تقمص شخصيّة المُهرج التاريخيّة التي تحدثنا عنها، ولكن بطريقةٍ عصريّة. إذ يعمل من خلال مقاطع فيديو قصيرة ومن خلال جلسات البث المُباشر الطويلة نوعاً ما على تقديم محتوى ساخر، ومُثير للضحك، لجذب الجمهور وتحقيق الشهرة والمال.
لكن هذا المحتوى نظراً لافتقاره للمهنيَّة والدراسة أقرب لأن يكون سخيفاً وساذجاً، ويتمتع بشيءٍ كثير من التفاهة، التي تبعثُ على السخريّة لا على الضحك.
تداول الإعلام الكُردي خلال الأيام القليلة الماضيّة ما أسماه ظاهرة “Xwedê mêrekî bide we weke mêrê min!”، مُعتبرةً إيَّاها ظاهرة جديدة في المُجتمع، ولا بُدَّ من الاهتمام بها إعلاميّاً بوصفها تصلح لأن تكون قضية رأي عام هامّة.
لا تبدو مُقدِمةُ هذا المحتوى شخصيّةً كوميديّة، إذ أنَّ حديثها مُثيرٌ للسخريّة لا للضحك، وبالتالي لا يُمكن تصنيفها كما الكثيرين – مِمَّنْ يعملون في هذا المجال – على أنَّها شخصيّةٌ مُنتجة لنوعٍ من أنواع الفن الكوميدي.
وهُنا لا بُدَّ لنا أن نطرح السؤال التالي: كيف يُمكن تصنيف مثل هذه الظواهر الإعلاميّة؟
أعتقد أنَّ جواب هذا السؤال على صلةٍ وثيقة بطبيعة البيئة التي تنشأ فيها هذه الظواهر. إذ أنَّ منصة التيكتوك، والتي تبدو سهلة الاستخدام والوصول، تتيح للجميع فرصة “صناعة المحتوى”، وبالتالي يسعى من خلالها عددٌ كبيرٌ من المُستخدمين عرض ما لديهم من “مهارات”، إن جاز التعبير.
ضمن هذه البيئة تنشأ مثل هذه الظواهر، والتي تهدف إلى جذب جمهور مُعين، وتحقيق الشهرة إعلاميّاً.
ظاهرة “بافي جيجو” أيضاً مُثيرةٌ للاهتمام في هذا السياق. يقوم “بافي جيجو” بحملة انتخابيّة للحزب الديمقراطي الكُردستاني في محافظات إقليم كُردستان. تشتمل شخصيته على عناصر يُمكن تصنيفها على أنَّه يقوم بدور المُهرج. إذ يهتم “بافي جيجو” بزيه وبالألوان التي يرتديها بعناية شديدة، ويحاول من خلال ظهوره رفقة عازف الطبل والمزمار في الشوارع العامّة والأحياء الشعبيّة جذب وتركيز الاهتمام على الهُوية البصريّة للحزب الديمقراطي (اللون الأصفر)، وبالتالي الترويج للحزب، والتأثير على رأي الناخبين.
ليس من السهل أن يكون المرء سخيفاً ومُثيراً للسخريّة، وبالتالي فنحن أمام نشوء فنٍ جديد، أهم عناصره، شخصيّة مُثيرة للسخريّة لا للضحك، ومحتوى فارغ من المعنى ولا يتسم بالاستدامة كما في الأعمال الكوميديّة التاريخيّة (إذ يتلاشى أثر هذه الأعمال بعد فترةٍ قصيرة، وتتحول إلى فضلات رقميّة)، والاستمرار على نفس الوتيرة وبنفس النمط، والعمل على نشر المحتوى على مُختلف مُنصات التواصل الاجتماعي، لترسيخ صورة تلك الشخصيّة في أذهان الجمهور.
آلان بيري