ملخص
منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية التي انطلقت عام 1975 وانتهت في 1990 بسقوط اليرزة (قيادة الجيش) وبعبدا (رئاسة الجمهورية) بأيدي القوات السورية وحلفائها، وقيام لبنان جديد تحت السيطرة السورية- الإيرانية هناك محاولات لتسليم لبنان نهائياً إلى “حزب الله”.
يركز المحللون والمراقبون على حرب “حزب الله”، وهي جزء من الحرب الخمينية ضد إسرائيل تدور رحاها على الأراضي اللبنانية عبر الاستهدافات الإسرائيلية لمواقعه وقياداته وداخل إسرائيل أيضاً عبر القصف الذي ينفذه الحزب في الجليل وأبعد من تلك المنطقة.
لكن هناك حرباً أخرى شنها “حزب الله” في الداخل اللبناني وهي امتداد لمواجهات بدأت في السابع من مايو (أيار) 2008 وتطورت وكانت السيطرة الدائمة فيها للحزب، إلا أن المعركة القائمة بين إسرائيل وإيران فتحت مواجهة أخرى ثانية يشن “حزب الله” من خلالها حرباً باردة قد تسخن مع الوقت، ولذلك كتبت في مقالي السابق عن حرب الحزب ضد إسرائيل واستكمالاً له سنكتب اليوم حول حرب “حزب الله” على لبنان وهذا ما نعنيه.
خرجت أخيراً بيانات متعددة من قبل ما يسمى بالمعارضة اللبنانية أو بكلام أوضح “تيار ثورة الأرز” الذي انطلق أساساً في عام 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه مما فجر انتفاضة شاملة في البلاد في 14 مارس (آذار) وأدت إلى تغييرات سياسية وقتها. هذه المعارضة تطورت خلال السنوات إلا أن بياناتها الأخيرة التي صدرت عن نواب ومجموعات تعتبر من ضمنها كجبهة السياسيين وغيرها أصدروا مواقف أكثر تقدماً تتلخص جميعها بعدم الموافقة على حرب إسناد “حزب الله” لـ”حماس”، وتهدف القوى المعارضة إلى إيقاف الحرب وإيجاد صيغة أخرى للمواجهة بين الحزب وإسرائيل وربما صيغة سياسية جديدة في لبنان.
هذه المواقف أغضبت “حزب الله” وقد تجعله يتخذ خطوات إضافية مما يعني أن حرباً سياسية ستبدأ وربما تتطور إلى مواجهات ميدانية مما يضع ميليشيات إيران في القتال على جبهتين، أولى مع إسرائيل وثانية معركة حادة بينه وبين معارضيه على طول وعرض لبنان، وهذا استعراض للواقع الجديد الذي وصفناه بحرب بين التحالف الموالي للخمينيين في لبنان والقوى التي عارضته في الأقل منذ عام 2005، وجذور المواجهة تاريخياً ونفهم تطورها لنفهم كيف تحولت معارضة الحزب إلى مجابهة معه وخصوصاً منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية التي انطلقت عام 1975 وانتهت في 13 أكتوبر 1990 بسقوط اليرزة (قيادة الجيش) وبعبدا (رئاسة الجمهورية) بأيدي القوات السورية وحلفائها، وقيام لبنان جديد تحت السيطرة السورية- الإيرانية هنالك محاولات لتسليم لبنان نهائياً إلى “حزب الله”، وكانت المعارضة في الداخل طول الـ15 عاماً تحت السيطرة السورية رمزية تقتصر على تنظيمين هما التيار الوطني بقيادة العماد ميشال عون، والقوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع بوجهها السياسي لا العسكري، ولكن قوى سياسية داخلية وفي الاغتراب استمرت في محاولتها لزعزعة القبضة السورية طيلة عقد ونصف العقد بدعم مباشر من بكركي والبطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، ونجحت في إصدار القرار 1559 الذي طلب من القوات السورية الانسحاب ومن الأحزاب والميليشيات التخلي عن سلاحها، وهذا النصر (لقوى المعارضة) أدى إلى تصاعد المواجهة بينها وبين السلطة اللبنانية وقتها مما أدى إلى اغتيال رفيق الحريري عام 2005 .
كما أنه وكما كتبنا سابقاً فإن العامل الأكبر الذي سمح بإطلاق ثورة الأرز أساساً إضافة إلى النشاط الذي أنتج القرار 1559 هو هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، إذ إن إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش التي انغمست في مواجهة “القاعدة” و”طالبان” ونظام صدام حسين أرادت أن تضرب قدرة النظام السوري في تنظيم معارضة لقواتها في العراق، بالتالي فتح الباب أمام دعم المعارضة الشعبية في لبنان ضد الوجود السوري في بيروت.
ومنذ 2008 لم تتوقف المواجهة بين الحزب ومعارضيه اللبنانيين، ففي ذلك العام – أحداث السابع من مايو- أظهر الحزب لسائر اللبنانيين نواياه العدوانية للسيطرة على لبنان، وكانت معارك الشوف وعاليه حيث مني “حزب الله” بخسارة كبيرة في الأرواح والعتاد والمواجهة في الجزء الغربي من بيروت وانتهت بسيطرته على الحكومة اللبنانية، ومنذ ذلك التاريخ يتعاطى اللبنانيون المعارضون مع الحزب على أنه “ميليشيات إيرانية”.
“حزب الله” كان يخوض مواجهتين مع إسرائيل عبر الاشتباكات التي مكنته من استخدام أسلحة ثقيلة ومتطورة من إيران، وثانية مع سائر اللبنانيين استعمل فيها قدراته السياسية والمالية والأمنية لإخضاع الطبقة السياسية. وإبان هذه السنوات ولا سيما بعد تولي ميشال عون الرئاسة، استفاد “حزب الله” إلى الحد الأقصى فتمكن من تمييع القرارات القومية للمعارضة اللبنانية، واستفاد أيضاً في تحقيق اختراق في المناطق التي يريد السيطرة عليها بما فيها جبل لبنان وأجزاء مهمة في البقاع ونقاط مهمة في الشمال.
واستوعبت قيادة الحزب بحنكة معظم التطورات التي واجهها بما فيها ثورة تشرين 2019 حيث كان قلق الحزب ينم عن ثورة عارمة، غير أن فيروس كورونا وانتهاء ولاية إدارة دونالد ترمب وتوسع العمل الاستخباراتي للميليشيات، عوامل أدت إلى تراجع المعارضة ودفعها إلى الاستسلام السياسي، ومع خروج ميشال عون دانت السيطرة للحزب بشكل كامل ولم يعد هناك مكان لم يخرقه.
ولكن من ناحية أخرى، فإن مقاومة الميليشيات انتقلت من قيادة الأحزاب إلى القواعد، ورأينا منذ 2021 مع وصول إدارة جو بايدن للبيت الأبيض أن هناك معاندة لبنانية ضد الحزب. وحصلت اشتباكات في نقاط عدة بين أعضائه والمعارضين الشعبويين في الجنوب وضواحي بيروت وجرود جبل لبنان، وهذه المناوشات إن دلت على شيء فهي تدل على استمرار المعارضة الثلاثية (سنة ودروز ومسيحيون وحتى شيعة ليبراليون) للحزب، غير أن ما لم تنتبه له هذه المعارضة هو اختراق استراتيجي للميليشيات بتوجيه إيراني لمناطق استراتيجية في القمم والجرود على طول خط جبل لبنان ومستودعات هائلة في بيروت نفسها بما فيها تلك التي وضعت في المرفأ. والآن نرى مستودعات في مناطق مسيحية وسنية. “حزب الله” كان يهيئ لحرب كبيرة لا مع إسرائيل فقط بل مع المعارضة التي خطط لإسقاطها والاستيطان في مناطقها كما يحدث الآن.
ومع انفجار هجوم السابع من أكتوبر بدأت الأمور تتجه إلى حرب بين “حزب الله” وإسرائيل ووقعت، غير أنها كانت حرباً طويلة وبطيئة كشفت عن استعداد الفريقين لمواجهة بعضهما بعضاً، لا سيما منذ الصيف الماضي، وما شهدناه كمراقبين أن القيادة الإسرائيلية قررت الانتقال إلى الجبهة الشمالية لكسر آلة الحزب العسكرية والحوادث الأخيرة كانت مذهلة عبر تفجير “البيجر” والفجوات الهائلة التي أحدثتها إسرائيل في ضرب مواقع الحزب، ومن بين المواقع عدد لا بأس به كانت مخازن للأسلحة على طول جبل لبنان وبيروت، والبقاع وبشكل محدود في الشمال.
إن هذا الكشف الإسرائيلي للتمدد الخميني على كامل الأراضي اللبنانية إنما أشار إلى حرب سرية خاضها “حزب الله” ضد اللبنانيين وهي حرب التموقع، ويعتبر المحللون أن نتائج حرب مايو 2008 التي فاجأت لبنانيي بيروت عبر انتفاضة خلايا “حزب الله” على الحكومة نفذها الحزب طوال عقد في كامل لبنان، فبنى الأنفاق وأقام المستودعات ونصب الصواريخ مستفيداً من علاقاته مع حلفائه من بقية الطوائف وللأسف خروقاته داخل الجيش اللبناني لبناء سيطرة تحت الأرض خارج مناطق بيئته. هذه المناطق استهدفتها إسرائيل فانكشف تقدم “حزب الله” وسيطرته على مواقع استراتيجية تمكنه من اجتياح بقية المناطق كما حدث في مايو 2008.
هذا هو الواقع الآن، “حزب الله” يتلقى الضربات من إسرائيل ويضربها في المقابل، ولكن الجميع يعلم أن الآلة العسكرية الإسرائيلية ستأخذ وقتها لتدمير بنية الحزب التحتية. الميليشيات الخمينية تعتبر أن الطريق الوحيد للنجاة هو التمدد خارج مناطقها، فترسل المهجرين ومجموعات مسلحة تمهيداً للسيطرة عليها عملياً، ولكن ما لاحظناه أن العصب المقاوم للدروز والمسيحيين والسنة بدأ بمقاومة التمدد عبر الكشف عن الجماعات المسلحة والمخابئ العسكرية وإعلاء الصوت السياسي ضد ما تقوم به المحاور الخمينية، لذلك فإننا نعتبر أنه وإلى جانب الحرب الإسرائيلية- الخمينية حرب أخرى غير معلن عنها بين الميليشيات وسائر اللبنانيين وحتى الوجود المعارض داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية. وتشير آخر التطورات إلى أن هذه المعارضة تحاول ولو بشكل متأن فرض تصورات كانت ناجحة في 2004 خصوصاً القرار 1559.
“حزب الله” لا خيار له سوى إنهاء هذه المعارضة كي لا تشكل جبهة ضده في الداخل، ويبقى السؤال ماذا يمكن أن تقوم به هذه المعارضة في خضم المواجهة بين إسرائيل والحزب؟، هذا ما سنجيب عنه في المقالة المقبلة.