انتهت حرب الـ12 يوماً (كما يسمّيها بعضهم) بين إسرائيل وإيران، التي شهدت، ليس مساندة (ودعم) الولايات المتحدة لإسرائيل فقط، بل ايضاً قيامها بما عجزت عنه إسرائيل بقصفها الجوي والصاروخي ثلاث منشآت نووية إيرانية. واللافت أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أشعل هذه الحرب، هو نفسه من أعلن وقف إطلاق النار وإخماد المواجهة، في وقت كان يجري الحديث فيه عن مصير النظام الإيراني، ومدّة صموده، بعد الاستهداف الإسرائيلي لأكثر مرتكزاته ومؤسّساته أهميةً.
اختلفت هذه الحرب بين إسرائيل وإيران عن الحروب السابقة في الشرق الأوسط من نواحٍ عديدة، وأعلنت خروجها من الطابع التقليدي للمواجهة غير المباشرة (أو بالوكالة) كما في العقود السابقة، وتحوّلها مواجهةً مباشرةً بين الطرفَين، وذلك في سياق صراع الهيمنة الجيوسياسي على المنطقة. إلا أنها لم تفترق عن سابقاتها في السؤال عن المنتصر فيها فور توقّف الغارات الإسرائيلية وإطلاق الصواريخ الإيرانية، فزعم كلُّ طرف أنه المنتصر فيها، عبر تسويق سردية انتصاره، والتأكيد على بلوغه أهداف المواجهة، فأعلن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهداف عدوانها، وعجزت مع داعميها في إثارة استياء الشعب الإيراني. وسارع النظام إلى تنظيم “احتفال النصر على إسرائيل” في وسط العاصمة طهران، في محاولة منه لتكريس صورة انتصار مزعوم، بدلالة أنه كان صاحب الرشقات الصاروخية الأخيرة في هذه الحرب، فضلاً عن أنه لم يكتفِ بمواجهة “الشيطان الأصغر”، بل ردّ على “الشيطان الأكبر”، بإخباره بموعد الهجمة الصاروخية على قاعدة العديد في قطر (؟)، في محاولة من هذا النظام للتستّر على حجم الانكشاف الأمني الذي يعانيه، وعلى الاستباحة الكاملة لأجواء إيران، والتوغّل الاستخباراتي الإسرائيلي في مفاصله، فضلاً عن القفز فوق الخسائر الجسيمة والضربات الموجعة التي طاولت منشآته النووية وقادته العسكريين، وطاولت أيضاً علماء إيرانيين نوويين.
في المقابل، لم يتأخّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن الزعم أن الحرب مكّنت إسرائيل من إزالة تهديد وجودي فوري، وحاول، مع مسؤولين عديدين في حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلية التي يرأسها، تسويق سردية خروجهم منتصرين في هذه الحرب، وتحقيق الأهداف التي وضعوها، والمتمثّلة في القضاء على البرنامجَين النووي والباليستي الإيرانيين، متجاهلين حجم الخسائر التي تكبّدتها إسرائيل، والثغرات التي ظهرت في منظوماتها الدفاعية 12 يوماً، على الرغم من مساهمة الولايات المتحدة في التصدّي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية. إضافة إلى أن الضربات الصاروخية الإيرانية التي طاولت العمق الإسرائيلي، من شماله إلى جنوبه، خلّفت دماراً كبيراً، يشابه الذي اعتدنا على مشاهدة صوره في غزّة وحلب ودمشق وبيروت، إذ استهدفت الصواريخ الباليستية الإيرانية مدناً مكتظّةً بالسكّان في وسط إسرائيل، وطاولت منطقة تمتدّ في مساحة نحو 1600 كيلومتر مربّع، شملت منطقة تل أبيب الكبرى، التي يقطنها ما لا يقلّ عن 50% من سكّان إسرائيل، في أحياء مزدحمة في أحيانٍ كثيرة أو مبانٍ مرتفعة.
لا تختلف سردية النظام الإسرائيلي عن وصيفه الإيراني، فالدولة القائمة على الاحتلال الاستيطاني لجأت بدروها إلى عسكرة تامّة للمجتمع، وحاولت تسويق سردية الصراع الوجودي منذ نشأتها
غير أن السؤال الحقيقي لا يتعلّق بالمنتصر في هذه الحرب، بل يتعلّق بحجم الخسارة التي مني بها كلا الطرفَين، خاصّة الشعب الإيراني، الذي سبق أن دفع فاتورة البرنامجَين النووي والباليستي من حساب قوته اليومي، ووضعه المعيشي المتردّي. إضافةً إلى أن الحرب الإسرائيلية كشفت ملامح أزمة أعمق في الداخل الإيراني، تخصّ ليس طبيعة العلاقة بين النظام والمجتمع فقط، بل اختبرت مدى قدرة البنية الاقتصادية والاجتماعية على استيعاب الصدمات وإمكانات تجاوزها. أمّا في الطرف الإسرائيلي، فإنه على الرغم من أن الخسائر في الأرواح، والخسائر المادية، كانت أقلّ ممّا لحق بالطرف الإيراني، إلا أن الصواريخ الإيرانية تمكّنت من اختراق كلّ الدفاعات، وحقّقت إصاباتٍ عديدة في مواقع عسكرية ومدنية. وبالتالي، كشفت الحرب على إيران زيف مقولة إن قدرات إسرائيل العسكرية عصيّة على الكسر، وإن أيّ تهديد لها مجرّد وهم لا يمكن تحقيقه، لأنها الدولة القادرة على حماية مواطنيها بواسطة قدراتها العسكرية المتفوّقة، والحفاظ على مستقبل وجودها في المنطقة.
يحاول الطرفان التقليل من خسائرهما، وتسويق سرديّتهما للصراع الدائر بين مشروعيهما الهادفين إلى الهيمنة على المنطقة، القائمين على تسويق خطاب تعبوي لمواجهة خطر العدو الخارجي، إذ بنى النظام الإيراني سرديّته على هذه الفكرة لعسكرة المجتمع والدولة في إيران، وتشييد نظام أمني لمواجهة تطلّعات الشعب الإيراني، وتبرير استخدامه أدوات القمع السياسي كلّها ضدّه، بوصفها أكثر مرتكزات النظام الوجودية أهميةً، فمجرّد بقاء النظام هو انتصار بالنسبة إليه، أمّا ما لحق بالبلاد من دمار وخراب فهو من الآثار الجانبية التي ينبغي دفعها من أجل استمرار النظام في مواجهة الشيطانَين، الأصغر والأكبر، اللذَين يستهدفان هذا النظام المقاوم والممانع لكلّ مشاريعهما في المنطقة.
كشفت الحرب على إيران زيف قدرة إسرائيل عسكرياً على حماية مواطنيها
لا تختلف سردية النظام الإسرائيلي عن وصيفه الإيراني، فالدولة القائمة على الاحتلال الاستيطاني لجأت بدروها إلى عسكرة تامّة للمجتمع، وحاولت تسويق سردية الصراع الوجودي منذ نشأتها، إذ سوّقت أقاويل كثيرة عن فكرة العدو الخارجي المتربّص بوجودها، وساعدها في ذلك خطاب ملالي النظام الإيراني، وفي مقدّمتهم المرشد الأعلى علي خامنئي وكبار قادة الحرس الثوري، الذين تحدّثوا في مناسبات عديدة عن أنهم يسعون إلى “محو إسرائيل من الخريطة”. وقد استغلّ ساسة اليمين المتطرّف في إسرائيل، وفي مقدّمتهم نتنياهو، عنترية الخطاب الإيراني لتسويق الخطر الوجودي الداهم الذي يتهدّد كيانهم، وتبرير قيامهم بحرب استباقية من أجل التخلّص من أدوات هذا الخطر، المتمثّلة بالبرنامجَين النووي والباليستي الإيرانيين، بينما يكشف واقع الحال أن إسرائيل تمتلك أكثر من 200 قنبلة نووية، تكفي لردع ومواجهة خطر أيّ عدو خارجي يهدّد أمنها.
المشكلة هي في صراع الهيمنة على المنطقة بين مشروعَين جرى تشييد سرديّتيهما على مقولة العدو الخارجي، لذلك لن يُفضي وقف إطلاق النار سوى إلى نهاية جولة من المواجهات بينهما. ولعلّ السؤال عن الخاسر يخصّ الطرفَين في حرب لم تكتمل بينهما، خاصّة أنه ليس هناك ما يؤشّر إلى ممكنات قيام سلام في المنطقة.