يستشهد المؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم، الذي يُعرّف نفسه بأنه يهودي عربي، بالفيلسوف الفرنسي إرنست رينان حين قال: «إن الأمة هي مجموعة من الناس توحدهم وجهة نظر خاطئة حول الماضي وكراهية لجيرانهم». ثمّ تحدّث عن الحركة الصهيونية التي سبقت قيام إسرائيل بأنها «واحدة من أنجح ممارسات العلاقات العامة في القرن العشرين. ومع ذلك، لم تكن هذه الحركة فريدة من نوعها في نشر نسخة مبسطة ومزخرفة من الماضي، في عملية الترويج لأجندتها القومية، بل على العكس من ذلك، فمثلها كمثل كل النسخ القومية للتاريخ، كانت النسخة الصهيونية المعيارية لنشوء دولة إسرائيل»، وأن تلك النسخة «كانت انتقائية وتبسيطية وتخدم مصالح ذاتية. خدمت هذه النسخة من التاريخ وظيفة مزدوجة، في غرس الشعور بالأمة لدى اليهود من مختلف بلدان الأصل، وفي حشد التعاطف والدعم الدوليين لدولة إسرائيل الوليدة».
شلايم واحد من أبرز المؤرّخين الجدد الإسرائيليين كما هو معروف، الذين ظهروا في أوائل التسعينيات من القرن المنصرف، وأحدثوا ما يشبه الثورة في إعادة النظر في التاريخ اليهودي، خصوصاً من حيث قيام إسرائيل، وعلاقته بالمشكلة كما هي حالياً. وبشكلٍ من الأشكال، كان ظهور هؤلاء اختراقاً باهراً للمألوف والسائد والممنوع والمزيّف أيضاً. كان مهماً أيضاً ردّ فعل الكتاب والباحثين العرب على أولئك «المراجعين»، حيث اعتُبر ذلك أحياناً، أو عومل كانتصار للحقيقة العربية، وللرواية العربية.

نحتاج «مؤرخين جددا» لن تكون مهمتهم سهلة بوجود أنظمة اعتادت عرقلة أي بحث، وتدمير أيّ وثيقة، وطلب فتح خزائن الوثائق السرية، أو ما بقي منها، لأغراض البحث

نحن الآن في قلب عملية اجتياح إسرائيلية كاسحة لغزّة، تحاول أن تنتقم لضحايا غزوة حماس في السابع من أكتوبر، بما وصل حتى الآن إلى عشرة أضعاف العدد، مع تدمير منهجي لمئات آلاف المساكن، وتهجير قسري لا يعلم أحدّ مآلاته حتى الآن.. وما يزال الأمر مستمرّاً كمحدلة جبارة تسحق عالماً بائساً يستحق الحياة. ويدور نقاش عاصف حول أسرار العملية ودوافعها وتفاصيلها، ومنه ما يتعلّق بوحشية استهداف المستشفيات، التي تقول إسرائيل، إنها تحتوي أو تخفي تحتها سراديب القيادة والتحكّم بعمليات حماس. لم تستطع حتى وقت كتابة هذا المقال أن تقدّم إلّا دلائل محدودة وغير كافية، ولا تتناسب مع ما تدّعيه، هي لم تكشف أية أنفاق تحت مجمّع الشفاء الطبي حتى الآن، على سبيل المثال. وكما كان الأمر بعد غزو العراق، ومناقشات الادّعاء الأمريكي المتعلّق بالأسلحة الشاملة، سوف تتعرّض إسرائيل عموماً لفضيحة تهزّها بقوة ـ أكثر ما هي مهزوزة حالياً- حين يصبح نفي الموضوع إجبارياً. بالطبع يمكن أن يبقى الأمر معلّقاً والحقائق قيد الجدل الطويل الأمد أيضاً. ما أريد الإشارة إليه هنا، هو تاريخنا العربي المتعلّق بأشياء كثيرة، وأهمها القضية الفلسطينية. ما زال الأمر» تابو» بشكل من الأشكال، الأمر الذي يذكّر بظاهرة المؤرّخين الجديد، وطرح التساؤل حول إمكانية أن يكون لنا أيضاً مؤرّخونا الجدد. مع الذكرى الأربعين لقيام إسرائيل، ظهرت أربعة كتب هي: «ولادة إسرائيل: أساطير وحقائق» لسيمحا فلابان، و»ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947- 1949» لبيني موريس، و»بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي، 1947-1951» لإيلان بابي، وكتاب آفي شلايم «التواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين». ظهرت بذلك حركة المراجعين، حركة المؤرّخين الجدد، وأحدثت تغييراً مهماً في السياق الذي كان ملتبساً ومسكوتاً عنه أو مكذوباً بشأنه.
لدينا نحن العرب عدّة مسائل ينبغي إعادة توضيحها والنظر فيها: مراجعتها، وتأريخها من جديد. وقد جرى ذلك بالفعل سابقاً، ولكن من دون مهنية كافية، ولا خروج نسبي – على الأقل- من تحت تأثير الأيديولوجيا، من ذلك ما يتعلّق بتأريخ القضية منذ بداية القرن الماضي، والدورين البريطاني والألماني، وحقيقة رفض قرار التقسيم بإجماع الدول العربية، وتأريخ «جيش الإنقاذ» ثم حرب فلسطين وسياقات الجيوش العربية السبعة، وذلك المسكوت عنه من دور للأنظمة العربية في تعزيز الكيان المستحدث بمئات الألوف من المهاجرين من اليهود العرب، بشكل مباشر أو غير مباشر. لدينا الكثير مما يحتاج إلى تأريخ جديد، كالمسائل الكردية والأمازيغية مثلاً، يُضاف إلى ذلك خصوصاً ما يلزم من توضيحات لتاريخ الأنظمة والدول العربية، الإشكالي بطريقة مضحكة – مرعبة، والذي يراه كل ناظر بطريقة تختلف عن غيره. حين النظر في المسؤولية عن السلام مثلاً، وكيف يمكن توزيع مسؤولية عدم تحقيقه في السنوات العاصفة أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، ولطالما اعتمد تزوير التاريخ من الجهة الإسرائيلية آنذاك على أنه لم يكن هنالك في الطرف العربي من يمكن الركون إليه في عملية سلمية، بمعنى أن القادة الصهاينة لم يتركوا سبيلاً للسلم إلا سلكوه، لكنّ جهودهم تحطّمت على صخور التعنّت العربي، كشفت ملفات الخارجية الإسرائيلية حين رُفع الحظر عنها، أن الملك فاروق – ملك مصر- طالب اليهود بالتنازل عن غزة وقطاع كبير من الصحراء ثمناً للاعتراف الفعلي بإسرائيل، وأن الملك عبدالله – ملك شرق الأردن اقترح تسوية شاملة مع إسرائيل مقابل ممر بري إلى البحر المتوسّط، لكن الأكثر إثارةً ودراماتيكية كانت حالة العقيد حسني الزعيم رئيس الأركان الذي استولى على السلطة في سوريا بانقلاب غير دموي في مارس 1949. «فور استيلائه على السلطة، عرض الزعيم على إسرائيل سلاماً كاملاً وتبادلاً فورياً للسفر وعلاقات اقتصادية طبيعية، وإعادة توطين 300 ألف لاجئ فلسطيني في سوريا، مقابل نقل الحدود إلى وسط بحيرة طبريا». أورد آفي شلايم في مقالة له بعنوان» حرب المؤرخين الجدد»، أن الحكام العرب «أظهروا قدراً كبيراً من البراغماتية آنذاك في تعاملهم في المفاوضات مع الدولة اليهودية؛ بل إنهم كانوا حريصين على التسابق في ما بينهم في ذلك، لأنهم افترضوا حصول من يسبق غيره على شروط أفضل. وقد أثبت الزعيم صراحة عن طموحه لأن يكون أول قائد عربي يصنع السلام مع إسرائيل».
لم تكن حركة» المؤرخين الجدد» الإسرائيليين لتظهر لولا مرور ثلاثين عاماً على قيام إسرائيل، وبدء الإفراج عن الوثائق السرية، ذلك نظام موروث عن البريطانيين أيضاً، ويبدو أنه لن تكون هنالك حركة مماثلة على الجانب العربي إلّا إذا كان هنالك تشريع على هذا النسق، فلطالما اعتمد الباحثون في هذه الجهة على الوثائق المحفوظة لدى أرشيف الآخرين، مع تعمية شاملة عن مثل تلك الوثائق – لو بقيت متوفّرة- في أرشيفهم الوطني. في مثل هذه الأيام، منذ مئة عام تماماً، كتب جابوتنسكي، المعروف جيداً بالاسم والميول على الأقل، عن «الجدار الحديدي»، الذي ينبغي أن يتحقق المشروع الصهيوني وراءه مع القوة العسكرية، أو بمعنى آخر، أن المشروع لا يمكن تحقيقه إلّا من جانب واحد، وبالعنف الكاسح. تملّكت تلك العقيدة بن غوريون نفسه، الذي جاء من اليسار أساساً، وسادت الاستراتيجية الإسرائيلية عموماً حتى الآن، وحين انتقده «الصهاينة المعتدلون» اتهمهم بالنفاق وبأنهم «نباتيون». ما زالت أمام الحكاية فصول عديدة، سوف تمرّ بتضحيات وضحايا، وسوف تحتاج إلى جيل آخر وعقل آخر. نحن الآن أمام فصل دامٍ مختلف يملأ شوارع غزة وشاشات التلفزيون بالدهماء، فيما يمكن أن يكون لاحقاً «نكبة ثانية»، ابتدأت أرقام الضحايا فيها تتجاوز أرقام النكبة الأولى والكبرى. وعلى عادتنا تستهلكنا تلك الدوامة مراراً وتكراراً، لكن سيكون لدينا وقت أكثر لرؤية ما يجري الآن وتطوراته في ما بعد.
أخيراً، والمهم، أعتقد جازماً أننا نحتاج، أكثر من الإسرائيليين، إلى «مؤرخين جدد» في طرفنا، لن تكون مهمتهم سهلة بوجود أنظمة اعتادت عرقلة أي بحث، وتدمير أيّ وثيقة، وربّما يمكن لهؤلاء، ومعهم نخبة وجمهور كافيان ومؤثران، أن يطلبا فتح خزائن الوثائق السرية، ما بقي منها، وما سيسلم من التدمير المسبق لاحقاً، لعلنية الاطّلاع والتداول، لأغراض البحث والنظر على الأقل. في ساعات هاربة ما بين صور الأطفال الخدّج في مشفى الشفاء، وتجريف شوارع جنين، لم أجد ما أرجع إليه مراراً ومن دون ترتيب هذه المرة، إلّا رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، التي يمكن أن تعطي تفسيراً أكثر دقّة لما حدث وما زال يحدث، على شكل سلسلة من الهذيانات الساخرة الباكية!
كاتب سوري