أرنولد شونبرغ (1874 – 1951) (غيتي)

نعرف عن الفنان النمسوي  أرنولد شونبرغ   أنه كان واحداً من أبرز الموسيقيين الأوروبيين عند بدايات القرن الـ20، لا سيما كونه واحداً من مؤسسي الموسيقى الاثني عشرية في فيينا “الكابوس السعيد” إلى جانب ألبن برغ وأنطون فيبرن. ونعرف عنه أنه غالباً ما كتب كلمات أوبراته وموضوعها بنفسه، على غرار سلفه الألماني الكبير ريتشارد فاغنر. ونعرف أنه كان إضافة إلى هذا رساماً جرب حظه في إطار نوع خاص من التعبيرية الشاعرية… هو الذي لا يمكن أن نتجاوز كون واحد من كبار الفلاسفة الأوروبيين في النصف الأول من القرن الـ20، ثيودور أدورنو، قد خصه بدراسة بالغة الأهمية تركزت على أوبراه الأشهر “موسى وهارون”. وبهذا بقي علينا أن نتناول هنا جانباً آخر، ولكن ليس أخيراً من جوانب موهبته: نشاطه ككاتب ناقد ومؤرخ، وتحديداً في مجال الموسيقى. فالحال أن شونبرغ لم يتوقف طوال سنوات عديدة من حياته عن خوض الكتابة النقدية والتحليلية حول الموسيقى والموسيقيين، بحيث قد تجمعت له بين 1912 و1950 عشرات الدراسات المتنوعة التي يمكن القول، إن كلاً منها قد أثار في زمنه صخباً لا يقل عن الصخب الذي أثارته إبداعاته الأخرى.

اكتشافات متأخرة

غير أن شونبرغ لم يجمع تلك الدراسات بنفسه بل جمعت مرتين من طريق غيره، المرة الأولى في عام 1950 قبل فترة يسيرة من رحيله مما أتاح له مشاهدة النسخ الأولى من الكتاب الذي صدر حينها في نحو 224 صفحة ليضم نحو 15 دراسة. أما المرة الثانية فكانت في عام 1975 حين صدرت في حجم مضاعف أي في أكثر من 550 صفحة هذه المرة وقد أضيفت إليها عشرات المقالات والدراسات التي كان بعضها اكتشف بعد رحيل المؤلف وبعضها كان هو قد فضل عدم نشرها في حياته. وبهذا اكتمل في المرة الثانية، وفي كتاب ضخم نسبياً –ولكن يقل قيمة عما كان محتوى الطبعة الأولى إلى حد ما- المتن الكتابي لمبدع كان يصر على خوض كل مجال إبداعي يمكنه الخوض فيه. والحقيقة أن المفاجأة الطيبة هنا كانت أن مهارة شونبرغ في الكتابة والتحليل لم تكن بشكل عام أدنى من مكانته في التلحين أو الرسم، ناهيك بأن ثمة من بين دراسات الكتاب مما أدى إلى نوع من إعادة النظر في علاقة حياة شونبرغ بإنتاجه وكذلك نظرته إلى بعض رفاقه وأسلافه. وحسبنا هنا أن نقرأ دراستيه عن ماهلر وبرامز، أو الـ10 دراسات التي ترد تحت عنوان “موسيقى حديثة” أو الموسيقي  والنزعة القومية”، ثم بخاصة “القلب والعقل في الموسيقى”، وتلك الدراسة الخاصة التي كتبها بالفرنسية تحت عنوان “نعود دائماً” لنتيقن من أن الرجل كان ينظر بجدية مطلقة إلى كتاباته الموسيقية، بل يعتبرها في بعض الأحيان جزءاً أساسياً من إبداعه الموسيقي نفسه، مثلاً مع ذلك النص الذي أعطاه عنوان “موسيقى جديدة، موسيقى بائدة، الأسلوب والفكرة”. ففي هذه الدراسة التي كتبها شونبرغ في عام 1946 لتكون بهذا واحدة من آخر نصوصه، حرص على أن يصفي حسابه مع كل أولئك الذين وقفوا ضد تجديداته منذ بدايات القرن معتبرين الموسيقى التي يبدعها –وكذلك موسيقى رفاقه في حركته التجديدية من ألبن برغ إلى أنطون فيبرن وحتى سترافنسكي- “فنا بارد الأحاسيس يبتدعه مدعون يلحنون من دون أن يتركوا مكاناً للقلب والعاطفة في أعمالهم”.

“ربما كان فمي أفضل ما لدي”

كل هذا نجده بين صفحات هذا الكتاب الضخم الذي لا يخلو من صفحات شاعرية تضيء كالنيازك وسط زحام من النصوص النظرية والنقدية أبدعها ذاك الذي قال عن نفسه يوماً: “إنني قصير القامة، قصير الساقين، أصلع الشعر رغم هالة من بعض الشعر الأسود تحيط برأسي. أنفي كبيرة ومدببة. عيناي سوداوان كبيرتان وحاجباي كثيفان. ربما كان فمي أفضل ما لدي. معظم الوقت أسير ويداي متشابكتان وراء ظهري، فيما كتفاي منحنيتان”. فبهذه العبارات وصف أرنولد شونبرغ نفسه، حين طلب منه ذلك ذات مرة. والحال أن شونبرغ الذي قدم هذا الوصف كان شونبرغ الرسام أكثر منه شونبرغ الموسيقي، بل حتى شونبرغ الكاتب الساخر بقدر ما كان شونبرغ الرسام والموسيقي، هو الذي كان في مطلق أحواله علماً من الأعلام البارزين في عوالم فيينا بدايات هذا القرن. بل كان يعتبر نفسه بموافقة الآخرين، معلماً من معالم عاصمة الثقافة والانحطاط الأوروبيين في تلك المرحلة.

حديث عن الانحطاط

والحديث عن الانحطاط لن يكون هنا من قبيل الصدفة. فالحال أن ما ابتكره شونبرغ في عالم الموسيقى، هو الذي علم نفسه بنفسه باكراً، وأطلق عليه اسم “الموسيقى الاثني عشرية”، اعتبر من قبل كبار النقاد والمؤرخين الكلاسيكيين فاتحة لرسم صورة لانحطاط الموسيقى في زمننا. وحسبنا اليوم أن نقرأ رواية “الموت في البندقية” لتوماس مان لكي نكتشف خلف الحوارات القاسية التي تدور من حول الحداثة بين بطلها الرئيس فون آيشنباخ وصديقه، صورة -تنتمي إلى شونبرغ بالتأكيد- عن سجالات زمن الانحطاط ذاك. غير أن ما اعتبر في ذلك الوقت انحطاطاً، سرعان ما دخل عالم كلاسيكية القرن الـ20. وموسيقى شونبرغ التي كانت بدعة وهرطقة معه، سرعان ما صارت موسيقى زمننا السائدة، بعد أن تابع خطواته طلاب درسوا عليه كان من أشهرهم بيرغ وفيبرن، ثم جاء ثيودور آليس وميسيان وبوليز وغيرهم، ليعلنوا في نهاية الأمر انتصار شونبرغ على سترافنسكي، أي انتصار أول الحداثة على آخر الكلاسيكيين.

ثورة في السلالم الموسيقية

إذن، كان شونبرغ بداية ثورة في الموسيقى، قامت على أساس استخدام المؤلف لسلالم الموسيقى التي كان عددها في الأصل دزينة من السلالم لم يعتد المؤلفون أن يستخدموا منها قبل ذلك، سوى سبع سلالم. لقد قامت ثورة شونبرغ على أساس إعادة دمج السلالم الناقصة وإعطائها في مجال الهارموني أهمية توازي أهمية السلالم الأخرى، مما جعل للموسيقى الحديثة 12 صوتاً متساوية، ومن هنا جاء اسم “الموسيقى الاثني عشرية” التي أعاد شونبرغ تنظيمها تبعاً لأربع تقنيات واحدتها في الاتجاه المعتاد، والثانية في الاتجاه المعاكس، والثالثة في اتجاه يسمى اتجاه المرآة، والرابعة في اتجاه معاكس للمرآة. وهذا كله أدى إلى خلق الموسيقى التسلسلية.

 

تلميذ باخ وموتزارت وفاغنر

كل هذا قد يبدو الآن معقداً، لكن أهميته تكمن في أن مبتكره، أو بالأحرى مكتشفه، لم يدرس الموسيقى في أي معهد، بل درسها عبر استماعه المتنبه والدقيق لأعمال أساتذته الكبار باخ، موتسارت، بيتهوفن وفاغنر. فالحال إن شونبرغ منذ اكتشفت الموسيقى الكلاسيكية وهو، بعد، صبي، لم يكف لحظة عن التطلع إلى اليوم الذي سيصبح فيه مؤلفاً موسيقياً، هو الذي لم يكن أكثر من ابن عادي لبقال متواضع. ولقد كانت أمه هي التي أعطته حب الموسيقى، فتعلم وحده العزف على الكمان والفيولونسيل وبدأ باكراً جداً يكتب أنواعاً بدائية من موسيقى الحجرة الوترية. وهو كان في الـ18 حين التقى زملنسكي الذي سيصبح أستاذه وملهمه، ويزوجه أخته.

“ليل مشع”

في 1907، وكان قد أضحى في الـ31 من عمره لعب شونبرغ في فيينا قطعته “رباعي من مقام ري كبير” التي أتت لتتوج بداياته وتعلن عن ولادة موسيقي كبير، ولقد لعب بعدها 12 تأليفاً للبيانو كان قد كتبها على شكل أغنيات في 1898. غير أن عمله الأول الذي لفت الأنظار حقاً إلى تجديداته كان سداسي التوتر الذي عرف باسم “ليل مشع” ولحنه على قصيدة لريتشارد دهمل. ولقد بدا واضحاً أن شونبرغ يحاول هنا أن يتخطى للمرة الأولى المستويات التي كانت قد وصلت إليها حداثة فاغنر. وفي 1901 سافر شونبرغ إلى برلين حيث لم يكف عن العمل منذ ذلك الحين وعن فرض وجوده في دائرة واسعة تتخطى حدود فيينا مسقط رأسه. وفي برلين كتب أولاً قصيدته السيمفونية “بيلياس ويلنراند” التي كشفت عن تأثره بفاغنر وريتشارد شتراوس، ولكن كذلك عن تجديد تقني لن يكف بعد ذلك عن ولوجه في أعماله التالية التي راحت تتوضح فيها أكثر وأكثر ابتكاراته التي قادته إلى الموسيقى “الاثني عشرية”، والموسيقى التسلسلية. ولسوف تمضي العقود التالية من حياته، وهو يبتكر ويؤلف ويعد خلفاءه، في وقت يؤكد فيه أنه موسيقي وليس مجرد منظر. في أواسط الثلاثينيات اضطهد النازيون شونبرغ، رغم اعتناقه البروتستانتية، فهاجر إلى الولايات المتحدة التي سيرحل فيها يوم 12 يوليو (تموز) 1951 وهو في قمة مجده.