في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات تماماً، كان الحصار الخانق الذي فرضه النظام السوري على مخيّم اليرموك في جنوب العاصمة دمشق يدخل شهره الخامس، وكانت المشاهد التي يسرقها المصورون المحاصَرون بكاميراتهم تروي جزءاً بسيطاً من المأساة التي لم يتوقّع أهلها أن تستمر لأشهر طويلة، حيث يتساقط الناجون من القصف الجوي والقنص قرب المعابر قتلى بسبب الجوع. ما مرّ به أكبر مخيمات اللجوء الفلسطيني في ذلك الوقت من حصار ودمار وتهجير يُعتبر واحداً من أقسى المشاهد التي مرّت على فلسطينيي الشتات بشكلٍ خاص. وجوه أطفال غزّة اليوم، وتوافد الناجين نحو مراكز توزيع الخبز أو المياه، وبقية تفاصيل المأساة؛ مشاهد مرَّت قبل عشرة أعوام، إنما بصخبٍ أقل، حيث لا وجود لكاميرات تلفزيونات ووكالات أنباء عالمية. كانت كاميرات السكّان هي التي تنقل المشهد، وهي التي صنعت منه فيما بعد سينما تسجيلية وثّقت لواحدة من كبرى مآسي الفلسطينيين المستمرة. فلسطين الصغرى فيلمٌ عُرض ضمن فعاليّات مهرجان السينما الوثائقية في مونتريال/كندا، كان وثيقة بصريّة مكثّفة وكافية لفهم معنى الحياة اليوميّة في الحصار، ولرؤية هذا الجزء المحوري من أجزاء سيرة الشتات الفلسطيني المستمرة.

صوِّر الفيلم خلال أيام الحصار الطويلة، ثم انتظر حتى تمكّن صانعه عبدالله الخطيب، الذي عايش الحصار يوماً بيوم، من تجميع فيديوهاته الطويلة المختلفة، وانتقاء 89 دقيقة منها لتروي الحقيقة كاملةً بأدواتٍ لم يستخدم الفيلم سواها؛ وجوه المحاصَرين وأكفّهم وأصابع أقدامهم وأحذيتهم ودراجاتهم الهوائية المهترئة، ومواعين طعامهم القليلة المغبرّة، وألسنتهم أحياناً.

ميزة الفيلم الرئيسيّة أن ما انتقاه الخطيب من اللقطات المأخوذة خلال الحصار، لم يعتمد على مدى أهلية الصورة لتتناسب مع المعايير الفنيّة لفيلم وثائقي قد ينال فرصة الحضور على شاشات مهرجانات عالمية كبرى، وهو ما حدث بالفعل، بل انتقى الصور الأقرب إلى التعبير الكلّي عن أوضاع الجالسين أمام العدسة، وعن أحاسيسهم المنقولة بغير الكلام المنطوق، حتى وإن كانت تلك الصور ذات كوادر ضعيفة، ودقّة متغيّرة، وحركة كاميرا غير مضبوطة بشكلٍ كامل. بعض الصور يمكن وصفها فنيّاً بأنها تبالغ بالزووم إن، وتنتقل بسرعة بين مقاساتٍ متفاوتة، ما قد يصيبها بضررٍ متمثّل بتفاوت الدّقة، لكن ذلك غير مهم أبداً، بل لعلّه جزءٌ ينتمي بقوّة إلى معنى الحصار، فهو أيضاً يعني ارتجاف يد المصّور، وانفعالاً يخلق حركة سريعة، وفقدانَ فيتامينات ومعادن وغذاء يجعل من الصعب على الأصابع أن تكون انسيابيةً في تحريك محرّك التكبير.

كل ما في الفيلم يصبُّ في واقعيّته المفرطة، وتخلّيه عن أهميّة اللقطات الواسعة الطويلة لصالح القريبة الممتدّة بمساحات زمنيّة مفتوحة ومتواصلة خلف بعضها، لا تحكمها ضرورات التنويع. المشاهدة القريبة المتراكمة لا تريد لعين المشاهِد راحةً بقدر ما تريده أن يعايش الحصار معها؛ من وجوه الأطفال وضحكاتهم التي تخلق أثراً انفعالياً مضاعفاً، إلى مشاهد الجثث الخارجة من الغرفة المظلمة التي يحكمها الجوع والإهمال. طفلٌ متمسّك برضّاعة لن ينال بعدها أخرى إلا بعد أيام، وشفاهٌ تُسقى حساءً مكوناً من الماء والبهارات، ودراجةٌ هوائية يقودها شابٌّ مبتور الطرف السفلي، وعشرات المشاهد التي تفيض بقسوتها وقدرتها على حصار المُشاهد وتضييق أنفاسه. هذا ما تطلبه تلك المشاهد تماماً.

أما اللقطات الواسعة، فهي تلك التي تتراكض فيها الجموع فراراً من قذيفة، أو إقبالاً على دخول بعض صناديق المعونات، أو لقطات للسماء التي تحمل القذائف بحيث تنقلنا مجدداً وبسرعة إلى اللقطة القريبة القاسية اللاحقة.

يقف خلف الفيلم بالدرجة الأولى مجموعة مصوّريه، أولئك الذين قاسوا أشهُر الحصار الطويلة مع آلاف الأسر؛ مصورون تركوا عدساتهم لدفن القتلى أو نقل صناديق الإغاثة حين توفّرها، أو لسحب الجرحى من تحت الأنقاض ونقلهم إلى المراكز الطبية القليلة. كانت حياتهم اليوميّة تمنحهم قدرةً على تمييز الصورة الأوضح والأكثر تعبيراً عن الوقائع اليوميّة للحصار. كان المصورون، ومنهم مخرج الفيلم، من بين أبطال الفيلم الكثر، والذين يحتل الأطفال بينهم المقدّمة والمساحة الزمنيّة الأكبر، فهم الصوت الأكثر شفافيّة ورقّة وتأثيراً.

فلسطين الكبرى تظهر جليةً في الصغرى، فإن كانت مأساة حصار المخيّم وتجويعه هي الأولى من نوعها لأطفال المخيّم، فهي استمرار لمأساة بدأت قبل سنين طويلة بالنسبة للمسنّين، أولئك الذين لا يرَون الحصار الذي يمرّون به إلا جزءاً من الحكاية التي بدأت في قراهم ومدنهم الفلسطينية عام 1948. فلسطين هي المكان الذي تطلبُ إحدى المحاصَرات في المخيم أن يتم نقلها إليه عبر الطائرة مباشرة، وهي الوطن الأول في شعارات الجدران التي تشكّل كوادر عشرات المشاهد، الجدران المدمّرة التي كُتبت عليها أغاني العودة والثورة والسلام والحرب.

حضر الفيلم الذي أُطلق عام 2021 في أهم مهرجانات السينما الوثائقية في العالم؛ من كان ومونبلييه في فرنسا، إلى ساندانس في الولايات المتحدة وسان باولو في البرازيل، وحصد جائزة التانيت الذهبي لأفضل وثائقي طويل في الدورة الثانية والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية، وفي مونتريال حظي بصالة ممتلئة فاجأت جمهور المهرجان بصفحة من المأساة الفلسطينية ليس موقعها الجغرافي فلسطين، ولا القاتل فيها إسرائيل، لكن الضحيّة فلسطينية، صفحة تُقرأ اليوم على هامش الصفحات اليوميّة التي تبثّها وسائل الإعلام.

لم يكن فلسطين الصغرى وحده من حمل قصّة فلسطينية في فعاليات المهرجان، فقد كان فيلم الافتتاح الرئيسي في كبرى قاعات المهرجان أيضاً في صميم مفهوم الشتات الفلسطيني؛ فيلم حمل اسم باي باي طبريّا، والذي من المفترض أن يكون واحداً من الأفلام التي ستمثّل فلسطين في فئة الفيلم الدولي الطويل لجوائز الأوسكار 2024. انطلق الفيلم من القصّة العائلية الخاصة نحو القضيّة العامة، وكانت الذاكرة أداتُه، بهيئتها كنوستالجيا حفرت عميقاً في شخصيّة الأم الفلسطينية التي تركت قريتها قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لتتّسع الذاكرة، فتشمل فلسطين الوطن.

تعمَّقت مخرجة الفيلم في البحث في قصص وأرشيف أمّها، وتابعت خيوطاً تربط العائلة وشخصيّاتها، بل ونحت باتجاه نقل الحدث الشخصي الذي باعد الأم عن عائلتها فترةً من الزمن، كجزءٍ من تكرار تشتّت العائلة. أصرّ الفيلم على مركزّيّة طبريّا كمكان لقصّته، وجعلها المكان الأكثر تأسيساً وتأثيراً في تكوين أفراد العائلة التي عاشت فيها وحنّت مديداً إليها، وعلى الرغم من التباعد الجغرافي، وبقي البيت يحمل صورة الوطن في كل القصص الأساسية والفرعيّة التي حكاها الفيلم برشاقة بالغة.حضرت فلسطين بوضوح في مهرجان مونتريال؛ حضواً لم يكن نتيجةً لما حدث في غزّة اليوم، فقد تم إقرار برنامج العروض في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، أي قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لكنّ مواكبة تلك الأفلام الخاصة بفلسطين للحدث السياسي العام أعطت الأفلام أهميّةً تزيد عن موضوعاتها، وتتّسع ليتم استيعابها ضمن ما يحدث، بل واعتبارها أداةً تساعدُ في فهم الأحداث. هنا تجدر الإشارة إلى أن حضور السينما التي موضوعها فلسطين حالياً ليس قضيةً سهلةً في عواصم ومدن العالم الغربي الكبرى، ففي مونتريال بالتحديد، وقبل أيام قليلة من انطلاق مهرجان السينما الوثائقية، ألغت واحدة من أعرق سينمات المدينة وتدعى Cinema du Parc فعالية سينمائية خيريّة للتضامن مع الضحايا في غزّة، وذلك بعد اعتراض مؤيدين لإسرائيل على شعار الفعالية، وهو «من البحر إلى النهر»، واعتباره يتضمّن معاداة للساميّة، ويولّد شعوراً لدى اليهود في مونتريال بعدم الأمان وفقاً لما نشره المعترضون.