إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن عديد قواتها العاملة في سوريا يبلغ الفي جندي، شكّل مفاجأة بعد أن كان الرقم المتداول هو 900 جندي فقط. القيادة العسكرية الأميركية وضعت الموضوع في إطار الزيادة الموقتة لدعم مهمة محاربة “داعش”.
المتحدث باسم البنتاغون الجنرال بات رايدر، نفى أمام الصحافيين معرفته متى وصل العدد إلى 2000 جندي، وقال: “ربما كان ذلك منذ أشهر على الأقل وقبل الإطاحة بنظام بشار الأسد،علمت بالرقم اليوم (الخميس)… وأردت أن أخبركم ما نعرفه بشأن ذلك”.
وبعد نحو 24 ساعة على الإعلان هذا، أصدرت القيادة الوسطى للجيش الأميركي (سنتكوم) بياناً قالت إن قواتها نفذت “غارة جوية دقيقة استهدفت زعيم داعش أبو يوسف المعروف باسم محمود في محافظة دير الزور في سوريا، مما أسفر عن مقتل اثنين من عناصر داعش، بما في ذلك أبو يوسف”.
وبحسب بيان “سنتكوم” أنه تمّ تنفيذ هذه الضربة في منطقة “كانت خاضعة سابقاً لسيطرة النظام السوري والقوات الروسية”. وكان سبق أن أعلنت القيادة نفسها أنه منذ انهيار نظام بشار الأسد زادت الولايات المتحدة من عملياتها ضد “داعش” وتمكنت من “ضرب 75 هدفاً للتنظيم في الساعات التي أعقبت إطاحة الجماعات المسلحة بالحكومة”، وانها قتلت في غارة جوية 12 مسلحاً.
واللافت الإشارة التي توجه بها قائد القيادة المركزية الجنرال مايكل إريك كوريلا إلى “الحلفاء والشركاء في المنطقة” في إشارة واضحة إلى القوات الكردية أو قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، عندما قال “إن الولايات المتحدة بالعمل مع الحلفاء والشركاء في المنطقة لن تسمح لداعش باستغلال الوضع الحالي في سوريا وإعادة تشكيل نفسها. لدى داعش نية لتحرير أكثر من 8 آلاف عنصر من داعش محتجزون حالياً في منشآت في سوريا”، وأضاف أنه سيتم استهداف هؤلاء القادة والعناصر بقوة، “بما في ذلك أولئك الذين يحاولون تنفيذ عمليات خارج سوريا”.
وضع هشّ
وبينما يتصاعد في شمال سوريا التوتر بين القوات الكردية من جهة وتركيا والفصائل الموالية لها من جهة ثانية، نقلت قناة “فوكس نيوز” عن القائد العام لقوات “قسد” مظلوم عبدي قوله إن جميع السجون لا تزال تحت سيطرة قواته، “لكن السجون والمخيمات في وضع حرج لأن من يحرسها يغادرون ويضطرون إلى حماية عائلاتهم”. وأضاف للقناة الأميركية: “أستطيع أن أعطيك مثالاً واحداً مثل سجن داعش في الرقة، الذي يضم نحو ألف من مقاتلي داعش السابقين. لقد انخفض عدد الحراس هناك إلى النصف، الأمر الذي يضعهم في وضع هش”.
تأتي هذه الأحداث بالتزامن مع زيارة وفد أميركي للعاصمة السورية دمشق للقاء ممثلين عن هيئة تحرير الشام، وضم الوفد مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف والمبعوث الرئاسي لشؤون الرهائن روجر كارستينز والمستشار المعين حديثا دانيال روبنستين الذي كُلف بقيادة جهود الخارجية الأميركية في سوريا.
لقاء مثمر وجيد
بعد أن قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الديبلوماسية مع سوريا وأغلقت سفارتها في دمشق عام 2012، شكلت زيارة الوفد حدثاً على أكثر من مستوى، فهو اللقاء الأول مع “هيئة تحرير الشام” المدرجة على القائمة الأميركية السوداء للإرهاب. إنما في نهاية اليوم الدمشقي ضرب المستشار المعين حديثاً دانيال روبنستين مواعيد أخرى قادمة، أي أن الزيارة لن تكون يتيمة، أذ اشار روبنستين الذي سيقود جهود الخارجية الأميركية في سوريا إلى أن المسؤولين الأميركيين سيأتون في زيارات أخرى.
ولأن لا مكان للصدف في عالم السياسة والعلاقات الدولية، خصوصاً في مناطق تتضارب فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية، أكدت ليف عقب لقائها القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع أنه “بناء على محادثاتنا، أبلغته أننا لن نتابع تطبيق عرض برنامج مكافآت من أجل العدالة الذي كان سارياً منذ سنوات عدة”، ” في إشارة إلى مكافأة بقيمة عشرة ملايين دولار كان مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي “إف بي آي” قد عرضها عام 2017 لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على زعيم هيئة تحرير الشام “أبو محمد الجولاني”.
الديبلوماسية الأميركية المخضرمة، وصفت المحادثات مع الشرع بأنها كانت “جيدة للغاية ومثمرة جدا ومفصلة”، واصفة إيّاه بـ”البراغماتي”، كما رحبت “بالرسائل الإيجابية” التي طرحتها الهيئة منذ الإطاحة بالأسد. ورهنت تطور العلاقة المستقبلية بمدى إقتران الأقوال بالأفعال.
سيارة تابعة للوفد الأميركي في دمشق (أ ف ب)
مستقبل القوات الأميركية؟
الحركة الأميركية العسكرية والديبلوماسية باتجاه سوريا تأتي في الأسابيع الأخيرة من ولاية الرئيس جو بايدن، وكان الرئيس المنتخب دونالد ترامب قد دعا الولايات المتحدة إلى عدم التدخل بشكل أكبر في سوريا مشيراً إلى أنها “ليست دولة صديقة” وأنه “لا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها أي علاقة بما يحدث، هذه ليست معركتنا، لندع الأمور تجري دون أن نتدخل”.
وكان ترامب خلال ولايته الأولى حاول سحب القوات الأميركية من سوريا عام 2019 وحينها رفض مسؤولو البنتاغون ذلك، وقال ترامب إن الجنرال مارك ميلي الذي كان رئيس هيئة الأركان المشتركة، أقنعه بالسماح بإبقاء عدد محدود من القوات لحماية حقول النفط. وقال ترامب في ذلك الوقت: “نحن نحتفظ بالنفط. لقد تركنا قوات خلفنا، فقط من أجل النفط”.
فيما لايزال من غير الواضح إن كان سيعيد الرئيس الأميركي طرح فكرة سحب القوات الأميركية من سوريا بعد دخوله البيت الأبيض الشهر المقبل، بدأت إسرائيل الحليف الأساسي للولايات المتحدة عملية عسكرية واسعة باحتلالها المزيد من الأراضي السورية الاستراتيجية بما فيها جبل الشيخ.
أما تركيا الِشريك الأطلسي تخوض بدورها حرباً ضد قوات “قسد”، الحليف الآخر لواشنطن في حربها ضد “داعش” ومن الواضح أن محاولات واشنطن لتثبيت هدنة بين الطرفين لم تنجح.
أمام كل هذه التعقيدات الجيوسياسية، والحذر من شكل النظام السوري القادم، من الواضح أن لقاءات دمشق بين “هيئة تحرير الشام” والوفد الديبلوماسي الأميركي سيكون محطة أساسية لتحديد بوصلة العلاقة المستقبلية بين الطرفين وبالتالي مصير الوجود العسكري الأميركي، خصوصاً وأنه خلال اللقاء شدّد الجانب الأميركي على مسألة محاربة “داعش” ومبادئ انتقال السلطة في سوريا والتطورات الإقليمية.
ومن الواضح كذلك، أن ملف العقوبات لا ينفصل عن هذا السياق، لاسيما وأنها فرضت عقب الحرب السورية عام 2011 والتي جاءت تحت “قانون قيصر” كان لها المفعول الكبير على بنية المجتمع السوري، حيث تشير الأرقام المتداولة أن ما يقارب 90 في المئة من السوريين باتوا يعيشون في فقر.
وفي الوقائع، تضع واشنطن مجموعة من الشروط قبل الذهاب نحو رفع اسم “الهيئة” من القائمة السوداء، وهذه الخطوة إن حصلت ستكون حاسمة باتجاه تسهيل الطريق نحو تخفيف العقوبات التي تحتاج إليها دمشق بشدة.
وعلى صعيد متصل، تشي التحركات الأممية التي عبّر عنها مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون والمواقف الصادرة عن الإتحاد الأوروبي وعدد من الدول العربية إلى منحى سيؤدي إلى رفع العقوبات وصولاً إلى رفع “هيئة تحرير الشام” عن لائحة الإرهاب. وبالأخص أن القوى الدولية تصب تركيزها على المسار السياسي ومرحلة ما بعد الحكومة الانتقالية وما سيليها من إعادة إعمار، إلى جانب مسألة الدستور الجديد ووضع الأقليات الدينية في النظام الجديد. والجدير بالذكر أيضاً أن مسار التواصل مع الحكومة الانتقالية السورية بما تمثل حدث بسرعة أكبر وعلى نطاق أوسع بكثير مما حدث مع حركة طالبان.