لا زالت “القرابة”، الميدان التقليدي والأهم للأنثروبولوجيا، تغري الباحثين بالحفر والتنزيل فيها، وقد سبق أن أنجز رواد كثر، من مدارس واتجاهات علمية متنوعة، دراسات وأبحاثًا شملت كل ما يتصل بالسيستام القرابي وقواعده، النسب والإرث والزواج والعلاقات الجنسية والروابط الرحمية والتحالفات الزواجية، من بينها كتاب “القرابة في بناها الأولية” لعالم الاجتماع والأنثربولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس (1908-2009) الذي تمحور حول المجتمعات الصغيرة التي يُقال عن بنى القرابة فيها إنها أولية، ومؤلّف الأنثربولوجي الأميركي لويس مورغان (1818-1881) “أنظمة القرابة والمصاهرة في العائلة البشرية”، الذي نوّه به ستروس واعتبره “أساسًا لنشأة الإناسة المجتمعية والدراسات القرابية في آن واحد”. وقد شكلت المؤلفات الآنفة الذكر مع غيرها من الأبحاث، التي أنجزها أنثربولوجيون متنوعو الدراسات، غنى معرفيًا وعونًا للباحثين في المجال عينه.
قرابات مفترضة وشعائرية
الاهتمام الكبير الذي أولته الأنثروبولوجيا لميدان القرابة قابله إغفال لميادين عديدة، من الممكن أن تندرج في إطارها، من بينها القرابات “المفترضة” التي ترمز عناوينها إلى دائرة اشتغالها، كتلك التي تستخدم للدلالة على تأسيس علاقات اجتماعية قرابية متولدة من خارج صلة الدم، كما هي الحال في قرابة عشائر متولدة من معتقدات وتقاليد خاصة بها، هناك أيضًا “القرابة الروحية” الناشئة عن شعائر وطقوس العمادة في الدين المسيحي كـ “قرابة العراب”، وهي قرابة بين أهل الابن بالمعمودية وأبويه الروحيين، ولهذه وظيفة من شأنها توطيد العلاقات تنتقل بين الفئات المجتمعية من جيل إلى آخر. ومن القرابات التي يمكن أن تدرج في خانة القرابة المفترضة، ما يستخدم للدلالة على وظائف ومراكز اجتماعية ودينية، مثال ذلك التسميات الدينية لرجال الدين وما يضاهيها من الأشكال التي تمتّ إلى القرابة، وبقيت رغم ذلك حتى يومنا هذا خفيفة الحضور في ميادين الأنثروبولوجيا.
تشاركية الوجود
اليوم، يحيي الأنثروبولوجي الأميركي مارشال سالينز (1930-2021) نقاشًا حول ما يمكن أن يماثل، أو يشابه، أنواع القرابة التي وصفت بأنها “مفترضة”، و”شعائرية”، من خلال كتابه “ما القرابة؟” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2024)، ترجمة عبد الله البياري، مراجعة مبروك بوطقوقة.
يستند سالينز في كتابه إلى مجموعة كثيفة وغنية من النظريات والتقارير الإثنوغرافية عن شعوب وقبائل مختلفة حول العالم، لعدد من الباحثين، يقارب من خلالها أنماط القرابة الاجتماعية لهذه الشعوب والتي تنشأ ما بعد الولادة، مرتكزًا على “تشاركية الوجود”، التي تذهب إلى أن الأشخاص الذين يتشاركون العيش، هم جزء لا يتجزأ من وجود بعضهم البعض، في كل ما يقومون به من أنشطة في حياتهم، فهم “أشخاص مشترِكون” وهم “الحياة نفسها”. هكذا لا يحصر سالينز القرابة بالطبيعة وحدها، أي بصلة الدم، التي يعتبرها جامدة، بل يضيف إليها الثقافة.
من الطبيعة إلى الثقافة
تتشكل القرابة لدى شعوب وقبائل البامونا التي تعيش في جزيرة سولاويسي، من خلال علاقة الطفل بأمه التي تنتمي إلى الطبيعة؛ إلا أن ما يجعل هذه القرابة تنتمي أيضًا إلى الثقافة، هو الجهد المشترك الذي يبذله من يهتمون بالطفل كإطعامه وتربيته وتلبية حاجاته النفسية؛ فالقرابة في هذه الحال تتجذر من خلال مفهوم الوالدية الذي يقوم على الرعاية والاستهلاك وليس على البنوّة البيولوجية المحدودة على نحو ضيق، وفق مقاربة سالينز.
كما أن “القرابة الأدائية”، لدى شعب “الجيفارو”، تتشكل أيضًا من خلال تراكمية الرعاية الأبوية، التي تصدر عن ذاكرة استيداع أفعال العطف والاهتمام. ولا يتشكل الجسد في معتقدات قبائل “الواري” فقط من ولادة من لحم ودم وعظام، بل من “التأثيرات والذكريات”، ما يعني أن تكوّن الأقارب يعتمد على “العيش جنبًا إلى جنب، يومًا بيوم، وعلى تصرفات المودة المعنوية المتبادلة بين الأفراد”.
“يستند سالينز في كتابه إلى مجموعة كثيفة وغنية من النظريات والتقارير الإثنوغرافية عن شعوب وقبائل مختلفة حول العالم، يقارب من خلالها أنماط القرابة الاجتماعية لهذه الشعوب والتي تنشأ ما بعد الولادة، مرتكزًا على “تشاركية الوجود””
في بحث لنانسي مون، تصف فيه كيف خلق رجل “جاوا” علاقة حضانة مع رضيع عن طريق مضغ الطعام ووضعه في فمه. فهذه المعاملة هي “حالة نموذجية لمنح الغداء، بما هو فصل الطعام عن جسم المرء لدمجه في جسد شخص آخر”، كما أن الطعام بالنسبة لشعب “الماوري”، كما ورد في بحث يوهانسن، هو بمثابة “وهب للحياة” إذ يمكن للطعام أن يعطي طبيعة جديدة، لأنه يمكن أن يقدم “نوعًا جديدًا من الحياة بالنسبة إلى من يأكله”. وهذا لا يرتبط بمانح الطعام فقط، بل بالمضيف الذي أكل الطعام ومنحهم إياه ما يؤدي إلى احترام العلاقة.
الجغرافيا والقرابة
الأرض هي عنصر مولد للقرابة أيضًا، فهي تدخل مباشرة في تكوين “أجيال” من آباء وأبناء يعيشون في المكان نفسه، ويتشاركون على مرّ الزمن في كل ما عليها، كما تنشأ بينهم علاقات تكامل مختلفة، فالقرابة بهذا المعنى هي الجغرافيا والمناظر الطبيعية التي يشترك الجميع في رؤيتها.
ولا تختلف قرابة أخوين من والدين تربطهما صلة دم، عن قرابة متأتية عن طريق تشاركية الأفراد في استهلاك الموارد والزراعات التي تنتجها الأرض الذي يعيشون عليها، ينطبق ذلك على المهاجرين وأحفادهم الذين يعيشون على نفس البقعة من الأرض ويأكلون من إنتاجها ويتشاركون مع أهلها في كل ما عليها، وهم بذلك مندمجون مع أبناء الشعب.
ووفق ما تقول جين غوديل، فإن شعب الكولونغ يعتبر أن جميع أحفاد أحد الأجداد في بريطانيا الجديدة “إخوة”، ولا تقتصر العلاقة فيما بينهم على تشابه المادة الجينية الحيوية فقط. ولا يفرّق شعب “الراي” في ساحل غينيا الجديدة بين جسم الإنسان والمكان الذي يعيش عليه، بل “يدمج الأماكن في الأجسام والأجسام في الأماكن”.
قرابة غير ثابتة
هكذا يقارب سالينز أنماطًا قرابية لشعوب وقبائل متنوعة معظمها ينتمي إلى الثقافة، إلا أن تباينات هذه الأنماط يجعل منها قرابة غير ثابتة وتخضع لتأثيرات ومعتقدات الجماعات، كما يبيّن سالينز، الذي يستمد من مارك نوتال توصيف عدم ثبات هذا النمط من القرابة لدى شعب غرينلاند، إذ بإمكان هذا الشعب أن ينشئ قرابة إذ “لم تكن موجودة”، كما يمكن تعطيلها إذا ما اعتبروها “غير مرضية”.
مراجع:
(*) جاك لومبار، مدخل إلى الإثنولوجيا، المركز الثقافي العربي، ترجمة حسن قبيسي، .1997
(*) معجم الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، بيار بونت وميشال إيزار وآخرون، مجد للدراسات والتوزيع، 2011.
عنوان الكتاب: ما القرابة؟ المؤلف: مارشال سالينز المترجم: عبد الله البياري