حين تحدّثتُ عن نساء مختطفات، لم يكن الرفض موجّهاً إلى ما قلت، بل إليّ أنا، حين نطقتُ به، كوني امرأة من الداخل، إذ من المفترض أن أكون امتداداً للجماعة وصورتها، والأهمّ: صمتها.
كنتُ إلى وقت قريب “الخيت”، الصبية الموثوقة، بنت البلد، اللي “بترفع الراس”، أدخل البيوت من دون حذر، يُلقى السلام عليّ باحترام، ويُشار إليّ باعتزاز: “هذه منّا، واحدة منّا، بل ربما أفضل من أنجبناه”.
ثمّ كتبتُ منشوراً واحداً على صفحتي عن شخص “جاب صبية من الساحل وتزوّجها”، وأكدت أن ما كتبته “من دون تفاصيل تذكر”، فـ”لا أحد بيعرف شو صار معها ولا كيف أجت”، وتابعت الحديث عن ظاهرة اختطاف نساء علويات من الساحل السوري.
تحدثت عن فرد بعينه، لم أُعمّم، ولم أتهجّم. قلت فقط ما حدث. قلت إن العنف ضدّ النساء لا دين له، ولا طائفة، ولا مدينة. لكنّ الجملة خرجت من إطارها فوراً، ولم يُسمَع صوتي كصوت نسوي غاضب ضدّ الجريمة، بل كصفّارة إنذار تهدّد صورة الجماعة.
تبدّل كلّ شيء بسرعة مذهلة، أصبحتُ “اللي خانت” و”اللي فضحت” و”اللي بتخدم الروايات اللي ضدّنا”. رفع محافظ إدلب دعوى ضدّي، وعائلتي نشرت بيان براءة. أُقصيت عن العمل، وتوقّفت الدعوات التي كنت أتلقّاها لحضور المؤتمرات، وتكاثرت الأسئلة: “ليش قلتِ؟”، “ما كان فيك تسكتي؟”، “مو وقتها!”. لم يسألني أحد: “ماذا حدث للمرأة التي خُطِفت؟”، السؤال الحقيقي كان دوماً: ماذا فعلتِ بنا؟
خطر الحديث من “داخل الجماعة”
هذا النصّ ليس رداً، ولا محاولة للتبرير، هو شهادة ومواجهة. لأن ما حدث لي ليس حالة فردية، بل نموذج دقيق لآليات الإقصاء التي تُمارَس على النساء حين يتكلّمن من داخل الجماعة. لأن صوت المرأة، حين يوجّه نقداً “من الداخل”، يُعتبر أخطر من كلّ التهم “الخارجية”، لأنه يفضح ويكسر الصمت من دون استئذان.
حين تحدّثتُ عن نساء مختطفات، لم يكن الرفض موجّهاً إلى ما قلت، بل إليّ أنا، حين نطقتُ به، كوني امرأة من الداخل، إذ من المفترض أن أكون امتداداً للجماعة وصورتها، والأهمّ: صمتها.
كان من المفترض ألا أتجاوز الخطّ الرمزي الذي يفصل بين “نحن” الذين انتصرنا و”الآخر” المهزوم، وهنا يكمن الخطر، إذ لم أكن أتّهم خصماً خارجياً، لكن أضأتُ على عنفٍ مارسه فرد واحد، لا يمثل كل الجماعة، لكن كلامي أُخذ على أنه يتهم المجتمع ويصوره على أنه متواطئ مع الجريمة، على أنه يهين رمزية الثورة، التي لا أدرك حتى اللحظة كيف أُقحمت بهذا السياق.
ومع أن الثورة والحرب قد انتهتا، إلا أن هذه الرمزية لا تزال حيّة في المخيال الجمعي. لهذا، حين يأتي انتهاك من تلك “الحاضنة”، لا يُقرأ كفعل فردي، بل كخلل في الرمز نفسه. ويصبح الاعتراف به تهديداً لماضٍ يُراد له أن يبقى نقياً، بلا شروخ، ماضٍ تعرّضت فيه النساء خلال سنوات الثورة، في سوريا كلّها وفي إدلب تحديداً، لانتهاكات كثيرة.
كيف تقول امرأة منّا إن مَن صرخ لأجل “الحرّية” قد مارس قهراً؟ كيف نعترف بأن شخصاً منا، قيّد جسدًا أنثوياً؟ هذه الأسئلة حوّلت الجسد المؤنّث إلى ساحة صراع تُرسم عليه خريطة السياسة بمعناها البدائيّ، أي تقسيم يختصر بالتالي: “من نحن؟ من عدوّنا؟ ومن يجوز لنا أن نتعاطف معه؟”.
سياسات الصمت والإدانة
لم أعد بنت “الجماعة”، بل أمثّل اختراقاً رمزياً من الداخل. اخترت أن أقول إن عنفاً قد يُرتكب باسم “قضيّة”، وإن أجساد النساء ليست مساحات للبطولة، فانهالت الإدانات حول اسم الجريمة، لا الجريمة ذاتها. في الثقافة التي تُنتج الطهارة الجماعية عبر “السكوت النبيل”، يصبح الجسد الأنثوي ساحة معركة رمزية، وحديث النساء عن الألم عملاً يُردّ عليه بالعقاب. وما يزيد الألم عمقاً أن الصمت يُطلب لحماية الرجال و لحماية الصورة الجمعية، بحيث يصبح غير مهمّ من هو الجاني، بل من أين أتى.
فُتحت عليّ أبواب جهنم، و سُكب علي غضب كل سنوات القهر السابقة، لكنّ سبب ذلك الغضب كله ليس الاتّهام الذي وجّهته، بل مرتكبه، وكأن نقد أي سلوك لأحد “منا” أصبح “كفراً”، لأنه معفى من الخطأ!
يُطلب منكِ أن تُنكري الألم، أو على الأقلّ أن تصمتي حياله، لأن الكلام قد يحرج الصورة العامّة. وهكذا يتحوّل الصوت النسائي — لا سيّما من الداخل — إلى جريمة مضاعفة كونه يقول ما يُفترض أن يُنسى.
من المهمّ أيضاً أن أقول إني عندما تحدّثت عن حالات اختطاف نساء من الساحل، كنت أُشير إلى مأساة محدّدة، مأساة شخصية وإنسانية تستحقّ التعاطف والاعتراف، ولم أتطرّق مطلقاً إلى مصطلح “سبايا”. مع ذلك، سرعان ما حُوِّر كلامي وحُوِّل إلى قضيّة “سبايا” ذات الطابع الرمزي الثقيل، وهذا التحوّل لم يكن عشوائياً، بل يكشف عن أبعاد عميقة من الخوف الاجتماعي والسياسي.
يرتبط مفهوم “السبايا” بطهارة الجماعة وسمعتها، فهو موضوع محاط بحساسيات قصوى، وتكاد تكون كلمة ممنوعة في التداول العامّ. الاعتراف بوجود “سبايا” يعني الاعتراف بخرق خطير للحدود الرمزية، التي تحمي “النقاء” الاجتماعي والأخلاقي للجماعة. لذا، فإن تطرّقي إلى موضوع النساء المختطفات – حتى وإن كان من دون استخدام تلك الكلمة – أعاد البعض تفسيره على أنه تهديد مباشر لهذا النقاء.
هذا التحويل يمثّل نوعاً من آليات الدفاع الجماعي؛ إذ يعمل المجتمع على إنكار أو تقليل حجم المأساة كي لا تُنقل إلى المستوى الذي قد يُزعزع الثقة في الهوّية الجماعية. وفي هذا السياق، تحوّل صوتي، الذي كان يريد فقط تسليط الضوء على واقع مؤلم، إلى “صوت مخرّب” يريد هدم الصورة التي يعتمد عليها المجتمع لتثبيت تماسكه.
إضافة إلى ذلك، يرتبط موضوع “السبايا” برمزيات مرتبطة بالأنوثة والكرامة والشرف، وعنف الرجال الشديد، وتسليع جسد المرأة حدّ البيع، والأهمّ يعيد الذاكرة إلى علامة سوداء من تاريخ سوريا القريب الذي شهد هذه الممارسة على يد تنظيم “داعش”، وهو ما يجعل من ذكره أو حتى التلويح بما يشبهه، بمثابة فتح جرح لا يريد سوريون كثر أن يُمسّ، لأن الجريمة في ذلك السياق لا تُقاس فقط بالأفعال الفردية، بل تطاول الجماعة ككلّ من صامتين ومتواطئين.
باختصار، تحوّل كلامي من “مختطفات” إلى “سبايا” هو انعكاس لصراع أعمق على هوّية الجماعة، صراع بين الرغبة في الاعتراف بالواقع وبين خوف من فقدان السيطرة على سردية الشرف والطهارة. هذا الصراع هو ما دفع إلى تشويه حديثي، وتحويله إلى أداة للطرد والوصم، بدلاً من فتح باب للحوار والاعتراف.
وما زاد الطين بلّة كما يقال هو “الإعلام”، فحين تداولت قنوات ومنصّات إعلامية كلاماً منسوباً إليّ، لم تُطرح الأسئلة المهنية البديهية. لم يُطلب توضيح، ولم يُراجع النصّ الأصلي، ولم يُفتح أي باب أمام سياق حديثي. قُدِّمت في صورة جاهزة، وتم التعامل مع الرواية كما لو أنها حقيقة نهائية لا تحتاج إلى مراجعة، و بُتّ الأمر أني تحدّثت عن “سبايا وسوق نخاسة”، على رغم أني لم أفعل. هذا السلوك صدر عن منصّات تُقدّم نفسها بوصفها مستقلّة أو مهنية، وهنا الكارثة برأيي.
تأديب النساء… علناً
طريقة التعامل هذه تعبّر عن منظومة أوسع، تُعاد فيها كتابة صوت المرأة وفق ما يناسب الخطاب العامّ. إعادة كتابة لا يهمّ فيها ما قيل، بل من التي قالته، وما إذا كانت تُعدّ “داخل الجماعة” أو “خارجها”. وحين تتكلّم امرأة في قضايا ترتبط بالرموز أو الشرف أو الجماعة، يُعاد تموضعها في الفضاء العامّ. تُوضع تحت المجهر، لا لفهم طرحها، بل لتقييم انضباطها، ولمراقبة إن كانت قد تجاوزت الحدّ المسموح به رمزياً.
المشهد الإعلامي في هذه الحالة أظهر مدى هشاشة المساحة الممنوحة للنساء في التعبير، بخاصّة حين يتقاطع خطابهن مع القيم الجماعية المحروسة، فالكلمة التي تزعج، قد تُعاد صياغتها بشكل يُمكّن المجتمع من مواجهتها من دون أن يُصغي.
وهكذا تتحوّل شهادة المرأة إلى تهديد، ويُعاد تقديمها على أنها إشكال في ذاتها، لا استجابة لواقع يستدعي النقاش. هذه الديناميكية تُظهر كيف بإمكان الإعلام أن يتحوّل إلى آلية إعادة تأديب للنساء، حين تُوجّه إليهن سهام التشكيك، ويُعاد إنتاج صورتهن بشكل يُجرّدهن من الحقّ في التفسير. فالكلام، في هذا السياق، لا يُؤخذ بوصفه تجربة أو تحليلاً، بل يُراد له أن يُصنّف فوراً ضمن خانة “مقبول” أو “مرفوض”، بناءً على معايير لا تعترف بتعقيد التجربة النسوية، ولا تتيح لها التعدّد أو التناقض.
و النتيجة من كلّ ما ورد أعلاه، أني طردت من الجماعة، وربما الطرد الاجتماعي أو الرمزي هو أكثر إيلاماً من الطرد القانوني، لأنه يمسّ جوهر الهوّية والانتماء، هو نفي الفرد من الخطاب الجماعي، وإلغاء حقّه في الظهور والاعتراف، بحيث يصبح “غير موجود” في واقع الجماعة، ما يؤثّر على وجوده الاجتماعي والنفسي.
حين تحدّثتُ عن نساء مختطفات، لم يكن الرفض موجّهاً إلى ما قلت، بل إليّ أنا، حين نطقتُ به، كوني امرأة من الداخل، إذ من المفترض أن أكون امتداداً للجماعة وصورتها، والأهمّ: صمتها.
طبقات الطرد والاستبعاد
الطرد يكون غالباً مؤطّراً بخطاب أخلاقي عند الحديث عن النساء، يتحوّل “الخلاف” إلى “فضيحة”، ويتحوّل “النقد” إلى “قلّة شرف”. وهذه آلية قديمة قائمة على وصم المرأة كوعاء شرف المجتمع. أي أن “شرف” الجماعة لا يُقاس بأفعال قادتها، بل بسلوك نسائها. وفي السياقات العربية، يعزّز الخطاب العرفي هذه الرؤية. فالمرأة التي تتحدّث عن قضايا “تابو” (كالتحرّش، والاغتصاب، وقمع الفصائل، أو فساد القيادات) تُتّهم بأنها “تُسيء إلى سمعة رجالها”، حتى وإن كانت تقول الحقيقة.
و في حالتي أيضاً، تمثّل الطرد الرمزي في بيان تبرّؤ عائلتي مني، ورفع دعوى رسمية ضدّي، وهو ما أدّى إلى فقدان العلاقات الاجتماعية، وحتى الشعور بالأمان. هذا الطرد يؤكّد أن الجماعة تحافظ على وحدة “الشرف” من خلال آليات الإقصاء الداخلي، الآليات المتّفق على ِ”شرعيّتها” قانوناً وعرفاً، إذ يُستخدم الإقصاء الرمزي كأداة للحفاظ على السلطة داخل الجماعة، ليصبح من يخالف السردية الرسمية خارج المجتمع، مرفوضاً، صوته مشكوك فيه وغير معترف بـ”جدّيته”.
لكنّ الطرد لم يتوقّف عند حدود الجماعة الأكبر، وجدت نفسي مطرودة أيضاً من بعض المجموعات النسوية — تلك المساحات التي ظننتها آمنة، وحليفة، ومُنصتة لصوت المرأة حين يعلو عن الهامش، فحين كتبت عن النساء المختطفات، لم يُفتح النقاش حول المأساة، بل تسارعت أصوات الى تداول تسريبات صوتية قديمة، عمرها أكثر من أربع سنوات، اجتُزئت من تسجيلات متفرقة ومركّبة لتوحي بأنني أهاجم النساء اللواتي يرتدين الخمار.
لم تكن التسريبات عشوائية أو ناتجة من اختراق مجهول، لكنها سرّبتها عن قصد سيّدة أعرفها جيداً، كانت ذات يوم زميلة في المسار، وتمثّل اليوم النساء في أحد الأجسام النسوية المهمّة، وتجلس في دوائر القرار التي يُفترض بها أن تحمي النساء لا أن تُقصيهن.
و للمفارقة، لم يُطرح سؤال حول دوافع هذا التسريب، ولا عن أخلاقيته، ولا عن السياق. لم يُدافع أحد، إلا القلّة القليلة، عن حقّي في الخصوصية، أو حتى يُراجع نفسه بشأن مدى عدالة تحميل تسجيل قديم، مجتزأ، ومحرّف، كلّ هذا الوزن الرمزي.
تحوّل الحديث بسرعة إلى نقاش مفتعل حول “عدائي تجاه المخمّرات”، على رغم أنني لم أهاجم أحداً، ولم أطالب بمنع أي شكل من اللباس، وعلى رغم أن أعز صديقاتي مخمرة، لكن وفي خضمّ نقاش “تسجيلاتي”، نسيت نسويات كثيرات النقاش المحتدّ ذاته الذي دار بينهن عن الخمار. فكثيرات تعتبرنه شكلاً من أشكال الطاعة المفروضة ضمن نظام أبوي، ومنهن تراه تعبيراً شخصياً عن التديّن والهوّية، يبقى الجدل قائماً حوله كرمز محمّل بالتناقضات أكثر من كونه قطعة قماش!
تنظر تيارات نسوية إلى الخمار كأداة قمع تُستخدم لطمس حضور المرأة في الفضاء العامّ، لتقليصها إلى ظل أو صوت خافت. يُقال إن تغطية الوجه تُلغي الشخصيّة، وتُعطّل التفاعل الإنساني، وتُعيد إنتاج خطاب الطهارة الذي يُحمّل المرأة مسؤولية “الفتنة”. في هذا المنظور، لا يمكن الحديث عن “خيار حرّ” في ظلّ منظومة تكرّس الخوف من الجسد، وتربط شرف العائلة والقبيلة بما إذا كان وجه المرأة ظاهراً أو لا.
في المقابل، يرى بعض النسويات أن انتقاد الخمار فيه نوع من الاستعلاء الثقافي، أو يُعيد إنتاج منطق الهيمنة الغربية الذي يحاول “تحرير” النساء عبر خلع حجابهن. هؤلاء يُشدّدن على ضرورة احترام الخيارات الفردية، حتى وإن جاءت ضمن بيئات محافظة، ويؤكّدن أن حرّية المرأة تشمل حرّيتها في التستّر، بقدر ما تشمل حريتها في الانكشاف.
ما هو زيّ “المرأة الفاضلة”؟
السؤال الذي يطفو مجدّداً، بخاصّة في سياقات كالتي عشناها في المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام أو “المحررة”، هو: هل يمكن اعتبار الخمار خياراً شخصياً فعلاً؟ في مناطق خضغت لسيطرة فصائل متشددة عدة، حيث تشكّلت خلال السنوات الماضية منظومة رمزية قوّية حول شكل “المرأة الفاضلة”، يصبح من الصعب فصل الحديث عن الخمار كخيار فردي عن السياق الأوسع الذي يحيط به.
انتشرت لوحات طرقية تحمل رسائل صريحة تربط بين العفّة واللباس الشرعي، وغالباً ما تُصوَّر المرأة المخمّرة كرمز للنقاء والفضيلة، مقابل غياب تامّ لأي صورة بديلة. في ظلّ هذا المناخ، قد يكون من المشروع التساؤل: هل يمكن فعلاً اعتبار ارتداء الخمار حرّية شخصيّة، حين تكون الرسائل العامّة، سواء من الأسرة أو المجتمع أو المجال البصري، موجّهة كلّها نحو مسار واحد؟
وحين يُصبح اللباس معياراً للأخلاق، ويُستخدم في الخطاب العامّ كأداة لتقييم النساء، فإن “الخيار” يتحوّل تدريجياً إلى “ضرورة اجتماعية”، ولو لم يكن مفروضاً بالقانون. و هذا لا يعني بالضرورة نفي وجود نساء يرتدين الخمار عن قناعة دينية أو شخصية حقيقية، بل يعني الاعتراف بأن البيئة التي تُهيمن فيها سردية واحدة حول اللباس، قد تُقيّد قدرة النساء على اتّخاذ قرار مختلف من دون تبعات أو مخاوف. في مثل هذه البيئات، الصمت أو الامتثال لا يكون دائماً نتيجة رضا، بل أحياناً نتاج تجنّب، أو حماية للذات، أو حتى رغبة بعدم التعرّض للنقد.
و من هنا، يصبح الحديث عن “الحرّية في ارتداء الخمار” معقّداً. فهو خيار يتشكّل في قلب بنية ثقافية واجتماعية تحكم ما هو مقبول وما هو مرفوض، وتُعرّف النساء بناءً على مدى التزامهن بصورة “المرأة المحتشمة” المتوقّعة. ثم أحاسب أنا بكلّ بساطة على تسجيلات مركّبة لم تسألني سيّدة ممن ينتقدنني عن سياقها، وعمّا إذا كانت حقيقية فعلاً، بحجّة أني أنتقد الخمار، و كأن ذلك الجدل كله لم يكن، وأنه ذهب أدراج الهواء في ظلّ التواطؤ غير المطلوب مع السلطة الحالية.
و لأكون شفّافة أكثر، لم تكن كلّ محاولات عدم إظهار النساء المخمّرات في الصور، أو تجنّب تصوير العباءات السوداء خبيثة أو مموّلة أو مدفوعة النوايا. كثر منها كان بدافع الخوف، والحرص، وحتى الحُب. كان هناك سعي بريء، من ناشطات وناشطين، من إعلاميين ومصوّرين، من منظّمات محلّية، لتقديم “المحرر” على أنه مساحة حياة لا تستحقّ أن تُختزل في صورة سوداوية. كبقعة فيها حياة، وتعليم، ونساء قوّيات، وفتيات يذهبن إلى الجامعات، وأمّهات يُدرن مبادرات. كانت تلك المحاولات برمتها، تحاول أن تعالج الميزان الدولي المائل، المستند إلى الإسلاموفوبيا.
من يمتلك حقّ “التمثيل”؟
اليوم، في مراجعاتي النسوية لنفسي، أسأل: حتى إن كانت هذه المحاولات بريئة، ألم تكن أيضاً استمراراً لاستخدام جسد المرأة كأداة دفاع رمزية؟ ألم نُخفِ صورة لباسها كي نحمي صورة الجماعة؟ ألم نُشارك، من حيث لا ندري، في إعادة إنتاج منطق أن “جسد المرأة مسؤول عن تمثيلنا”؟
ثم يأتي السؤال الأعمق: لو أن الخمار فعلاً لا يُستخدم سياسياً، فلماذا تغيّر كلّ شيء فجأة حين ظهرت زوجة السيد أحمد الشرع؛ الرئيس الحالي لسوريا، من دون خمار، وبملابس ملوّنة؟ لماذا أثار ذلك هذا الجدل كله، إن لم يكن غطاء الوجه نفسه محمّلاً برمزية سياسية؟ لماذا يُنظر إلى لباس امرأة واحدة على أنه مرآة لمشروع دولة بكاملها؟
والواقع أن اللباس في منطقتنا، وبخاصّة لباس النساء، لم يكن يوماً مسألة شخصيّة فقط. لقد كان دوماً ميداناً للرسائل المتبادلة، بين السلطة والمجتمع، بين الثورة والدولة، بين التديّن والعلمانية، بين الأصالة والحداثة. واليوم، أُدرك أنني؛ حتى وأنا أدافع عن حرّية النساء، قد وقعت أحياناً في فخّ سردية تُعيد إنتاج ما أحاول تفكيكه: إن جسد المرأة هو المعركة، وهو الوسيلة، وهو الرمز. أُخفيه حين يُخيفنا ظهوره، وأُبرزه حين يُناسب الرواية.
وبين هذا وذاك، يضيع صوت النساء، وتُسلب منهن حتى حرّيتهن في الحضور كما هنّ، بلا شروط، بلا رمزية، بلا توظيف. و خارج أسوار الجماعة، وجدت نفسي مقصيّة أيضاً عن الجماعة النسوية، بسبب سردية مُفبركة، استُخدمت بذكاء كأداة إسكات، في لحظة كان ينبغي فيها أن ننصت إلى صوت النساء المختطفات.
اليوم، يكون قد مضى قرابة شهرين و في رأسي سؤال: ماذا أفعل؟ و كلما قرّرت أن أكتب أو أسجل فيديو أو أفعل أي شيء، يقبض روحي الشعور المترافق مع صوت فيروز حين تقول: “بيعزّ عليّ غني يا حبيبي لأول مرة ما منكون سوا!”، نعم هذا هو شعوري تجاه الجماعة التي أحبّ، التي عشت معها القصف، و التشرد، والقهر، و الموت، و التي لم أشأ أن أجرحها مرّة، لكنّي مخذولة منها هذه المرّة. و أتذكر أني قلت لصديقتي التونسية مرة، إني أصف علاقتي بمجتمعي، بكلام الشاعر العراقي أدهم عادل: أحن للناس ما تحبني، أحن لناس أدافع عنها وتسبني. أجابتني وقتها أن هذا الشعور هو ضرب من ضروب المازوخية، ويجب أن نقاتل لأن نحِب ونحَب، فنحن نستحق ذلك.
قرّرت “الكلام” و”الظهور” عبر هذا النصّ، لأتعافى ذاتياً، ولتجد النساء حينما يختبرن مثلي قصّة مشابهة، صوتاً يشبههن. لم أكن أبحث عن خصام مع النساء أو المجتمع، أو أن أكون ” ترند” كما يقول البعض، بل أبحث عن مساحة للصدق، الذي سيحمي بلدي و جماعتي والنساء إلى الأبد.
ما يُكتب من موقع الطرد والهامش والمنفى، لا يخدم فقط الشفاء الفردي، بل هو في جوهره تفكيك للخطاب الجماعي المسيطر، وإعادة تشكيل للمركز من أطرافه. وعلى الرغم من أن أدوات “السيّد” لن تهدم بيته، لكنّ كلمات المرأة قد تفعل ذلك إن كُتبت خارج شروطه، وهنا تكمن خطورة الكتابة، لأنها تُهدّد بتكوين أرشيف بديل، سردية فرعية قادرة على فضح ما يُمسك بالبنية من الداخل. فالسرد، إذاً، ليس بوحاً، بل هو موقف. وليس فقط احتجاجاً، بل إعادة تشكيل للمعنى والانتماء والمعرفة.
من هنا، يصبح “الطرد” بداية صناعة خطاب بديل، أكثر صدقاً، أكثر جذرية، وأكثر قدرة على احتواء الحقيقة التي يُراد لها أن تُطمس، وربما يتطوّر هذا الخطاب البديل، ليصبح أرشيف المطرودات، ونقرّر أن نؤسّس حركة سياسية تحمل اسم “المطرودات من الجماعات”.