فسّر مركز “جسور” غياب الولايات المتحدة عن بيان باريس بأنه جاء بسبب وضع بند جديد لم يكن وارداً في مؤتمرَي العقبة والرياض، وتضمَّن “الاعتراف بالحكومة الانتقالية السورية ودعمها في التزامها الحالي صَوْن حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع السوريين”.
امتنعت الولايات المتحدة الأميركية عن التوقيع على البيان الصادر عن اجتماع باريس في ما خص سوريا (13شباط/فبراير) الذي شاركت فيه دول عربية وغربية، وجاء امتداداً لاجتماعي العقبة منتصف كانون الأول/ديسمبر، والرياض منتصف كانون الثاني/ يناير. وترافق الامتناع الأميركي مع خفض واشنطن تمثيلها الديبلوماسي بالتدريج في الاجتماعات الثلاثة. ففي حين حضر وزير خارجية إدارة جو بايدن أنتوني بلينكن الاجتماع الأول، اقتصر التمثيل في الاجتماع الثاني على وكيل وزير الخارجية جون باس، أما بعد تسلم دونالد ترامب مقاليد الرئاسة، وفي خطوة تعكس تراجع الاهتمام بالملف السوري، انخفض التمثيل إلى أدنى مستوياته وحضرت واشنطن اجتماع باريس الأخير بصفة مراقب فقط.
غياب التوقيع الأميركي عن بيان باريس، أثار الكثير من التساؤلات حيال حقيقة الموقف الأميركي من الملف السوري عموماً، ومن السلطة الانتقالية خصوصاً.
وهناك من لم يرَ مشكلة في ذلك بل اعتبره بمثابة “ضوء أخضر وموافقة ضمنية” على الاعتراف بالسلطة الانتقالية، منطلقاً في ذلك من أن جميع الموقعين على البيان هم من حلفاء واشنطن، وهو رأي “مركز جسور للدراسات”، الذي اعتبر في دراسة نشرت حديثاً أن ليست هناك “تداعيات سلبية محتملة” جراء عدم توقيع واشنطن على البيان.
وفسّر “جسور” غياب الولايات المتحدة عن بيان باريس بأنه جاء بسبب وضع بند جديد لم يكن وارداً في مؤتمري العقبة والرياض، وتضمَّن “الاعتراف بالحكومة الانتقالية السورية ودعمها في التزامها الحالي صَوْن حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع السوريين”، ومع ذلك اعتبر عدم التوقيع ضوءاً أخضر، مستنداً إلى أن واشنطن لم تمنع التطبيع مع الإدارة الجديدة كما كانت تفعل مع النظام السابق.
غير أن أستاذ التاريخ الشرق الأوسطي في جامعة لويزيانا التقنية أحمد نذير أتاسي كان له رأي مختلف، فالبيان لم يلتزم الاعتراف بالحكومة الحالية ولا تقديم مساعدات من أي نوع. بل وجد من خلال قراءته لمضمون البيان أنه اشتمل على إلزام الحكومة السورية كل الوعود الشفوية التي أعلنتها، مطالباً إياها بوضع جدول زمني دقيق للوصول إلى الانتخابات.
وأكّد أتاسي، لـ”النهار”، أن واشنطن “ملتزمة قراراتها السابقة بشأن تصنيف هيئة تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع على قائمة الإرهاب”، والإرهاب، بحسبه، “باراديم” أساسي في السياسة الخارجية الأميركية وهي تعتمده في كل قراراتها، لذلك لا تستطيع أن تشترك في أي مؤتمر يوحي اعترافها بالشرع وهيئته.
إلى ذلك، اعتبر عزت بغدادي، وهو ديبلوماسي مستقل وباحث سياسي، أن عدم توقيع الولايات المتحدة ليس “مجرد تفصيل ديبلوماسي، بل رسالة سياسية واضحة تعكس تبدّل أولويات واشنطن في التعامل مع الملف السوري”.
وقال بغدادي، لـ”النهار”، إنه “يمكن قراءة ذلك من زاويتين: الأولى أن واشنطن لم تعد ترى فائدة في مسار فرنسي – أوروبي تحاول باريس من خلاله استعادة دورها في سوريا، بخاصة مع تراجع نفوذها الإقليمي بشكل حادّ. والثاني أن إدارة ترامب تدير أزمات المنطقة بطريقة “أخطئوا ثم نحاسبكم”، إذ تتيح للحلفاء اتخاذ قرارات كبرى، ثم تعود لاحقاً لاستخدام هذه القرارات ضدهم في حال تغيرت مصالحها أو رغبت في فرض شروط جديدة، وتحصيل مكاسب أكبر”.
وفي هذا السياق، لا يستبعد أتاسي أن يكون هناك تقاسم للأدوار بين أوروبا وأميركا، إذ تقوم الأولى بدور الحمائم بينما تتولى الأخرى دور الصقور، وذلك بما يتناسب مع نظرة كل منهما إلى الملف السوري، الذي لا يخلو أوروبياً من أبعاد سياسية واقتصادية، فيما تنظر إليه واشنطن من الزاوية الأمنية والعسكرية فقط. كذلك أشار إلى أن إدارة ترامب تحب التفرّد لذلك هي تصدر قراراتها الخاصة، وتترفّع عن المؤتمرات الإقليمية أو غير الأممية.
ونبه بغدادي السلطة الانتقالية في سوريا إلى أن عليها إدراك أن الشرعية اليوم تُكتسب عبر تقديم حلول واقعية، وليس عبر الاعتماد على الغطاء الدولي، مشيراً إلى أن أميركا الجديدة تتعامل مع سوريا وفق أدوات تكنولوجية واقتصادية أكثر من كونها سياسية أو عسكرية، ومن لا يفهم هذه التحولات سيجد نفسه خارج المعادلة.
وعزا “جسور” التأخر الأميركي عن الاعتراف بالحكومة الانتقالية إلى كونه مرتبطاً بمجموعة قوانين العقوبات المفروضة على الدولة السورية، والتي يستلزم الاعترافُ مراجعتَها، أو إلغاءَها قبل ذلك، وكذلك إلغاء التصنيف الذي يطاول عدداً من قادة سوريا الجدد. وفي ما يتقاطع مع رأي بغدادي وأتاسي، أشار إلى ارتباط الامتناع الأميركي عن التوقيع بوفاء قادة البلاد بوعودهم في تحقيق انتقال سياسي يلبي متطلبات جميع السوريين، ومتطلبات المجتمع الدولي، وقضايا أخرى مرتبطة بتعهد مكافحة الإرهاب، وبأمن دول الجوار، ومنع إنتاج المخدرات والإتجار بها.