أصدر وزير الدفاع الأميركي بيتر هيغسيث مذكرة طلب فيها تخفيضات في الميزانية بواقع ثمانية في المئة، أي قرابة خمسين مليار دولار سنوياً، استثنى منها البرامج الاستراتيجية، لكنه لم يستثن ثلاث قيادات في الجيش الأميركي هي الأوروبية والأفريقية والوسطى. وهذه القيادات هي التي تدير القواعد الأميركية في ثلاث مناطق أدت وتؤدي دور مسرح الصراع للقوى العظمى على مدى القرن الماضي، ليأتي الرئيس دونالد ترامب ويعلن إنهاء هذا الصراع والقضاء على النظام العالمي الذي كانت الولايات المتحدة أقامته بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية وعززته في فوزها في الحرب الباردة، وبعد ذلك في تغلبها على الإرهاب.
النظام العالمي الذي شيّدته الولايات المتحدة، منتصف القرن الماضي، كان مناقضاً تماماً لنظام الإمبراطوريات القديم الذي سبقه، وحاولت أميركا بموجبه استنساخ نفسها في الدول الباقية، وتالياً، إقامة نظام عالمي مبني على حكم القانون، لا على سطوة القوي.
واعتقدت أميركا أن عالماً مبنيّاً على حكم القانون هو في مصلحتها المركنتيلية التجارية، إذ بدلاً من الاعتماد على القوة العسكرية لحماية التجارة الدولية التي أثرت الولايات المتحدة بسببها، بدا أن من الأوفر التوصّل إلى سلام عالمي يسمح بالنموّ الاقتصادي بتنافس مشروع وبدون حروب. لكن الطموح الأميركي تعثر، إذ لم توافق القوى الكبرى على هذه الرؤية، فالشيوعية الروسية حاولت تقويض الرأسمالية وتجارتها ونشر الشيوعية بدلاً منها، وبعد تغلب أميركا على الشيوعية، استغلت الصين النظام العالمي والرأسمالية ولكن دون التخلي عن الأساليب التجارية الملتوية، على الرغم من محاولات واشنطن إقامة شراكة مع بكين لصيانة النظام العالمي بصورة تستنسخ التجربة الليبرالية والديموقراطية.
الصين أرادت نتائج الليبرالية الاقتصادية ولكن من دون أن تحوّل نظامها إلى ليبرالي، وهو ما أفاد الصين في مرحلة اقتصادها النامي، ولكنه عاق نقل اقتصادها من متقدم إلى متطور، فتوقف عن النمو، ولا يبدو أنه سيستأنفه في المستقبل المنظور.
أمام تعثر تجربتي الشيوعية الروسية والرأسمالية الصينية الموجهة، انفردت أميركا بالتطور العلمي والنمو الاقتصادي، وانتهى رعبها من تقدّم الصين عليها، فالصين بلغت ذروتها الاقتصادية مع نهاية العقد الماضي، يوم بلغ حجم اقتصادها ثلثي حجم الاقتصاد الأميركي، وبدا أنها في طريقها للتفوق عليه.
منذ ذلك اليوم، انخفض حجم الاقتصاد الصيني، ليبلغ ستين في المئة من حجم نظيره الأميركي، في وقت تشير فيه الأرقام إلى التواصل في اتساع الفارق لمصلحة الأميركيين. ومع حلول العام الماضي، عادت الولايات المتحدة إلى ذروة تفوّقها الاقتصادي الذي بلغته مع نهاية الثمانينيات وعلى مدى التسعينيات، وعاد اقتصادها ليشكّل ربع الاقتصاد العالمي مجتمعاً.
وجاءت حرب أوكرانيا لتقضي على صورة القوة العسكرية الروسية، ولتظهر أن روسيا هي “محطة بنزين مع أسلحة نووية”، حسب التعبير الأميركي، فيما يجهد الصينيون لرفع نسبة التضخم لديهم إلى أعلى من الصفر وللخروج من المأزق نفسه الذي عانى منه اليابانيون قبلهم: الانكماش الاقتصادي مترافقاً مع شيخوخة اجتماعية وجفاف في مخزون اليد العاملة، الشابة منها والمنخفضة التكلفة.
أمام التفوق الأميركي الباهر، حاول خصوم أميركا من غير الديموقراطيات التعاضد ضدها لتقويض قوتها، وخصوصاً سطوتها الفتاكة في فرض العقوبات المالية والاقتصادية القاسية على الآخرين. وقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه المحاولات، فسعى لإقامة شراكة مع الصين لم تؤت ثماراً تُذكر، ثم حاول إقامة شراكة دولية مع المجموعة المعروفة ببريكس – أي البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا. وأعلن بوتين إقامة مصرف بريكس برأسمال 50 مليار دولار سعياً منه لإصدار عملة دولية تنافس الدولار وتقوّض السطوة الأميركية. وحاول بوتين توقيع عقود تجارية على شكل مبادلات غير نقدية، كما مع مصر، ومثله فعلت الصين مع إيران. لم تنجح أيّ من هذه المحاولات في زحزحة الدولار عن تربعه على قمة عملات العالم وانفراده كنقد دولي. أما السبب الأكبر خلف ذلك فيكمن في الثقة المطلقة لرأس المال الدولي بالدولة الأميركية وقدراتها وحكم القانون داخلها، أي إنه لا يضيع مال أيّ مستثمر قرر إيداعه في الولايات المتحدة، مقارنة بالدول المنافسة مثل الصين وروسيا، اللتين تفرضان قيوداً على حركة العملات، خصوصاً الدولار.
أما في الدول التي تتمتع بثبات وحكم القانون، مثل الاتحاد الأوروبي، فهي لا تتمتع بالأمن الذي تحرسه القوة العسكرية الأميركية الخارقة. الدولار لا يؤدي دور العملة الدولية لأن اقتصاد أميركا هو الأكبر و قوتها العسكرية هي الأقوى، على الرغم من أهمية هذين الأمرين. قوة الدولار – وتالياً تفوّق أميركا – هي بسبب ثقة رأس المال العالمي به، وما دام الوضع كذلك، يبقى الاقتصاد العالمي في أيدي الولايات المتحدة مهما حاول بوتين التظاهر بأن قوته العسكرية تجعله نظيراً لأميركا.
بعد ثمانين عاماً على محاولتها وفشلها في إقامة نظام عالمي على صورتها، قررت أميركا ترامب أن قوتها لا تحتاج إلى نظام عالمي، بل إنه نظام مكلف، وبلا جدوى، وغالباً لمصلحة الأعداء والخصوم والمنافسين أكثر منه حاجة أميركية. إذن، فليتدبّر العالم شؤونه، وستنشغل أميركا بالحفاظ على تفوّقها العلمي والعسكري والاقتصادي، وستدخل في منافسة بلا قفازات مع المنافسين، الحلفاء منهم مثل الأوروبيين، والخصوم منهم مثل الصين وروسيا. والمنافسة الأممية في هذا الزمن لم تعد بحاجة إلى فتح أسواق عالمية ولا لاستغلال موارد الشعوب الأخرى، على ما كانت عليه في زمن الإمبراطوريات، لأن الأسواق مفتوحة وأصحاب المواد الأولية يتسابقون لبيعها في السوق الدولية والإفادة من عائداتها.
المنافسة اليوم هي بين اقتصادات المعرفة وحكم القانون، وهذه الفكرة هي التي تحرّك أميركا اليوم، وهي التي دفعت ترامب إلى الرئاسة وأطاحت الحزب الديموقراطي، فالأميركيون لا يرون سبباً للالتزام بإنسانية عالمية لا تلتزم بها روسيا ولا الصين ولا غالبية الدول الاخرى، بل إن الشعوب غير الأوروبية – التي لا تلتزم القانون الدولي – دأبت على استخدام الأفكار الأوروبية نفسها عن الحرية وحقوق الإنسان وحكم القانون لمهاجمة أميركا وأوروبا وتقويضها، وهو ما أثار اليمين الأميركي والأوروبي، الذي لم يعد يرى جدوى في بناء عالم يشبهه، فيما هذا العالم نفسه يستخدم الأفكار الأوروبية لتقويضها.
هكذا، أنهى ترامب النظام العالمي الذي تلى عصر الامبراطوريات. ماذا يأتي بعد ذلك؟ منافسة دولية لا نعرف شكلها ولن تكون في الغالب على حسب ما تصوّرها من يقودها اليوم، وفي طليعتهم ترامب نفسه.
* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات
-المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية