نعم، أعلم كسوريّ، أن معظم مدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان الطارئين اليوم، ممن ملؤوا الساحات والصفحات فجأةً، كانوا صامتين لسنوات، ولم تتحرك ضمائرهم لموت سوريين (آخرين) بمئات الآلاف، خلال أربعة عشر عاماً. ولست غبياً بما يكفي ألا أستطيع قياس درجة حرارة حقوق الإنسان لديهم، مع كل حدث بحسب طائفة الضحية.
وأعلم أيضاً أن ما جرى في الأيام الأخيرة، مخطط له من فلول الأسد، وأن المتورطين بالآلاف، وأن هناك غرف عمليات، قد يكون بعضها خارجياً، دفعتهم لما قاموا به من هجمات منسّقة بعد أن أمّنت تسليحهم. وأن هدف هؤلاء النجاة من المحاسبة، وأنا مقتنع بأن من واجب الحكومة الجديدة ملاحقتهم واجتثاثهم عن آخرهم, لقتل أي أمل لديهم ولدى داعميهم بأن سوريا ستعود لآل الأسد أو لمن يشبهونهم.
وأكثر من ذلك، أعلم، ولا أحتاج لمن يخبرني، أن شهداء الأمن العام والجيش وأعداد من المدنيين الذين وقعوا ضحايا تلك الهجمات المنسّقة، فيما بدا وكأن هناك ساعة صفر متَّفق عليها، هم شباب لهم أسماء وأمهات وآباء، وليسوا مجرد أرقام، وأكثر من ذلك أرى أن فقدهم هو خسارة إنسانية ووطنية، وأنهم قُتلوا غدراً بيد مجرمين سفلة لهم تاريخ إجرامي مع نظام الأسد.
كما وأعلم، مثلكم جميعاً، أن عدم الإسراع في تحقيق العدالة وسوق المجرمين إلى المحاكم، سيدفع أهالي الضحايا، لأخذ الانتقام على عاتقهم.
وأعلم، أو على الأقل أُقدِّر ولا أستطيع أن أنفي، أن هناك احتمالاً، يجب أخذه بالحسبان، أن يكون بعض من صفَّى مدنيين علويين في عدة حالات، هم من فلول الأسد أنفسهم.
خوفي على سوريا القادمة هو ما يجعلني أُسمّي الجريمة جريمة، حتى لو ارتكبها أقرب الناس إليّ.
كانت كل تلك المقدمات، نوعاً من محاولة ردٍّ على من يسخرون من رهافة حسّ بعض المعارضين الذين رفعوا صوتهم ضد قتل المدنيين في قرى الساحل. ورد على من يحاول تذكيرنا بجرائم الأسد ومواليه، باعتبارنا لا نعلم. أقول إن كل ذلك الذي أعلمه، هو ما يخيفني أكثر على سوريا الجديدة التي يريدها السوريون، والتي أريد حمايتها مثل كل سوريّ شعر بالنصر والفرح يوم سقوط الأسد.
وهذا تحديداً ما يجعلني لا أقبل بتلك الانتهاكات التي حصلت ضد مدنيين علويين أبرياء. خوفي على سوريا القادمة هو ما يجعلني أُسمّي الجريمة جريمة، حتى لو ارتكبها أقرب الناس إليّ. ويدفعني لأسمّي المختبئين خلف التبريرات والفبركات، وظنّهم أنهم يدافعون عن البلد والحكومة الجديدة بإنكار الجرائم، وأحياناً تحميلها لغير مرتكبيها. يدفعني لأسمِّي هؤلاء وأصنّفهم في خانة أعداء سوريا الجديدة، رغم أنهم يعتقدون، عاطفياً، العكس تماماً.
من المفارقة أن تتحول فجأة، لدى منكري الجريمة أو التخفيف من وقائعها، بعض فصائل القتل والارتزاق والنهب والسرقة، المعروفة بتاريخها وممارساتها في شمال غربي سوريا، أن تتحول فجأة بعد سقوط الأسد، لتكون فوق الشبهات! رغم أن هؤلاء أنفسهم قد خبروها وخبروا أفعالها وممارساتها الإجرامية، بل وقالوا فيها ما لم يقله مالك في الخمر.
كانت مأثرة لهيئة تحرير الشام ما أبداه منتسبوها، خلال أيام التحرير وحتى في الشهور التالية، من انضباط في السلوك ومعاملة المدنيين بمن فيهم حواضن الأسد، وقد حاز الأمر احتراماً بل وإشادة واسعة من السوريين وغير السوريين، ووصلت أصداؤه إلى المجتمع الدولي. فلماذا ترفضون اليوم المحافظة على تلك السمعة؟ ولماذا بدل النفي والإنكار، لا نسمي المنتهكين ونعزلهم ونقدمهم للمحاكمات، لتبقى الصورة كما كانت.
بسذاجة يظن هؤلاء، أنهم بما يفعلون إنما يساعدون الإدارة الجديدة، فيتصرفون بذات غباء إعلام الأسد، عبر إنكار الجريمة أو تحميلها للآخرين بحبكات ركيكة، وبطريقة يمكن وصفها بالجبانة، خائفين من الاعتراف بالحقائق. بل ويتهمون، بسخرية بليدة من يسمون الأشياء بمسمياتها، بأنهم من المثقفين ومن ذوي الإحساس المرهف (الصفتان الأخيرتان شتيمتان بعرف هؤلاء). كما فعلت ممثلة المرأة في القيادة الجديدة، قبل أن تسحب كلامها المخجل، وحسناً أن وُجِد هناك من أنّبها لتخجل من فعلتها.
ليسا ماءً وزيتاً لا يجتمعان، أن نتحدث وندين محاولة مجرمة قام بها الفلول أدت إلى مقتل عناصر الأمن العام والمدنيين وأشعلت الساحل، وبذات الوقت ندين جرائم قتل وإعدام ميداني ضد مدنيين علويين أبرياء ارتكبها مجرمون (لا أفضل استخدام تعبير “عناصر غير منضبطة”)، ولا معنى لأي تخندق متحجّر في جانب واحد، وإعماء العيون عما يجري في الجانب الآخر، بل وإنكاره بحجة أن بعض الصور مفبركة. نعم هناك ضخ إعلامي وفبركات، خصوصاً على وسائل التواصل لتضخيم الأعداد، لكن هذا لا ينفي وقوع المذبحة.
هناك فلولٌ للأسد اليوم يناوئون الحال الجديد لسوريا الجديدة ويجب دحرهم دون شك؟ هذا صحيح، لكن بالمقابل، على الضفة الأخرى، يجب ألا يفوتنا ملاحظة أن هناك من يمكن وصفهم بأنهم ورثة جينات الأسد.
إخوتي (الثوار)، لست مغرقاً في الرومانسية. عركتني الحياة بقسوة مثل كثيرين. ونالت مني في الكثير من المحطات وهزمتني في بعضها، ولا أريد أن أقع اليوم فريسةً لهزيمة أخرى أمامكم، هي هزيمة أخلاقية بالدرجة الأولى. امتلاك الشجاعة لقول الحق، وامتلاك روح العدالة بدواخلنا، دون خوف ودون أن تهتز ضمائرنا أو تنزاح حسب انتماءاتنا الفرعية إن كانت دينية أو طائفية أو عرقية، لهو أمر يرتفع بنا وبإنسانيتنا وينتصر لها. يجب بناء سوريا الجديدة على أساسات ومداميك نظيفة، وليس على ركام من الكذب المكشوف، وفي أحسن الحالات على اعترافات مجتزأة تتداولونها مرغمين، بعد أن انتشرت الصور ووصلت إلى الإعلام العالمي.
صبيحة مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية صيف عام 2013، ظهرت بثينة شعبان المستشارة الإعلامية الوقحة للمجرم الفار على إحدى القنوات الفضائية الدولية، وادّعت، حين لم يعد الإنكار ممكناً، أن ضحايا الكيماوي هم أطفال من الساحل، اختطفتهم العصابات الإرهابية المسلحة وقتلتهم في الغوطة. طبعاً ليس خفيّاً على أحد أن هناك جهات تعمل اليوم بدأب لتهويل ما جرى، ووصفه بمسميات حقوقية مُبالغ بها، لتحريض جهات خارجية للتدخل، مع أحلام ساذجة عن تغيير النظام الجديد. كل هذا لا يلغي أنه من البلاهة، وليس فقط من باب انعدام الضمير والأخلاق، تكرار كذبات مشابهة والقول أن كل من قتلوا في مدن وقرى الساحل، إنما قتلتهم فلول النظام.
هناك فلولٌ للأسد اليوم يناوئون الحال الجديد لسوريا الجديدة ويجب دحرهم دون شك؟ هذا صحيح، لكن بالمقابل، على الضفة الأخرى، يجب ألا يفوتنا ملاحظة أن هناك من يمكن وصفهم بأنهم ورثة جينات الأسد، وهم يحاكون اليوم، وحتى من قبل، كامل بنيته الإجرامية، ما يجعلهم نسخة طبق الأصل عنه. هؤلاء هم من ارتكبوا جريمة اليوم.
يجب الخجل ووقف هذه المهزلة، وإلّا كيف سنقطع، مرةً وإلى الأبد، مع نظام الأسد، وكانت واحدة من سماته إنكاره، بطرق غبية، لجرائمه التي طالت عموم البلد. يجب أن تتوقفوا فوراً، فليس باسم الثورة، ولا حتى باسم سوريا الجديدة، يمكنكم عقد تلك المقارنات السطحية بين ما تفعلونه اليوم وبين ما فعله إعلاميو الأسد ممن لم يمتلكوا ما يكفي من الضمير، ما جعلهم لا يرون القتلى من أهلكم! فهل تريدون أن تكونوا مثلهم بلا ضمير؟
كان أعوان الأسد ومخبروه يروجون بين العلويين أن السُّنة سيقتلونهم جميعاً فيما لو وصلوا إلى الحكم، وأن هناك سكّيناً جاهزاً لكل رقبة علوي حتى لو كان طفلاً، وحينها لن يفرقوا بين مؤيد ومعارض أو بين بريء ومجرم. فهل تريدون اليوم توجيه رسالة لمن لم يصدق الأسد من العلويين أنهم كانوا أغبياء وساذجين، بينما كان الأسد وموالوه محقّين؟ إنها وصفتكم السحرية الناجحة لتدمير البلد وتهديم أسس الدولة الناشئة.