نزل عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع إسطنبول، وعدد من المدن الأخرى في تركيا، لليوم الخامس على التوالي احتجاجاً على اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وعشرات آخرين وتقديمهم للمحاكمة، واصفين هذه الخطوة بأنها «عمل انقلابي» باستخدام القضاء لتحقيق أهداف سياسية، وتحولت الساحة أمام مبنى بلدية إسطنبول إلى ميدان للتجمّع الاحتجاجي المركزي، حيث يَحضُر قادة حزب الشعب الجمهوري وشخصيات سياسية معارضة من أحزاب أخرى ويلقون كلمات تدعو الشعب إلى رفع الصوت عالياً في وجه ما يعتبرونه تهديداً للنظام الديمقراطي، واغتصاباً لإرادة الناخبين. نظراً لتعقيد المشهد السياسي التركي، سأحاول تلخيص الموضوع في عدد من الأسئلة.
– ماذا حدث؟
في 18 آذار (مارس) الجاري، ألغت إدارة جامعة إسطنبول شهادة الليسانس الجامعية التي منحتها لأكرم إمام أوغلو قبل أكثر من ثلاثين عاماً. ومع فجر اليوم التالي، بعد السحور مباشرةً، اقتحمت عناصر الشرطة مقرّ إقامة إمام أوغلو، ووضَعته قيد التوقيف بانتظار مثوله أمام النائب العام، وفتّشت المنزل.
وجّهت النيابة العامة مجموعتين من الاتهامات إلى إمام أوغلو وعشرات من مساعديه وزملائه في إدارة البلدية ورؤساء بلديات فرعية في مناطق تابعة إدارياً لإسطنبول: تتعلّق المجموعة الأولى من التهم بالفساد الإداري والمالي، وتشكيل منظمة إجرامية لهذا الغرض برئاسة إمام أوغلو. في حين تتعلق المجموعة الثانية بقضايا «تقديم مساعدات لمنظمة إرهابية».
لا يمكن التكهّن بصحة المجموعة الأولى من الاتهامات أو عدم صحتها، من المفترض أن تملك النيابة العامة أدلة وشهوداً للإدانة، وسيفصلُ القضاء في ذلك. أما التهم المرتبطة بالإرهاب فقد وُجِّهت على خلفية نتائج التحالف الانتخابي في نطاق مدينة إسطنبول بين حزب الشعب الجمهوري، الذي ينتمي إليه إمام أوغلو، وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) الذي دعم إمام أوغلو في الانتخابات المحلية العام الماضي. فبموجب هذا التحالف رشّح الحزب الكردي عدداً من المقربين منه على لوائح «الشعب الجمهوري»، وفازوا برئاسة بلديات فرعية، كما عيّن إمام أوغلو عدداً من هؤلاء في مناصب إدارية في بلديّته. وقد أثار هذا الموضوع بدايةً وزيرَ الداخلية السابق سليمان صويلو الذي أعدّ ملفاً حوله، وهدد برفع الموضوع إلى القضاء قبيل الانتخابات البلدية، لكن الأمر توقّف حينذاك عند هذا الحد، ثم أُثير مجدداً الآن بالتزامن مع ملف الاتهامات بالفساد.
– ما هي مشكلة الشهادة الجامعية لإمام أوغلو؟
فشل أكرم إمام أوغلو في الحصول على الدرجات الكافية لدخول الفرع الذي أراده (إدارة الأعمال) في امتحان القبول الجامعي، فسجّل في إحدى الجامعات الخاصة في قبرص التركية، حيث درس سنتين، ثم نقل قيده إلى الفرع نفسه في جامعة إسطنبول، وجرى ذلك بصورة نظامية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتابع دراسته إلى أن حصل على الإجازة الجامعية. بعد ذلك بسنوات أصدرت الهيئة العامة للتعليم العالي قراراً برفض هذا الشكل من الانتقال بين الجامعات إلا بشروط تتعلق بدرجات الطالب، لكن القرار لم يُطبّق بأثر رجعي، أي أنه لم يشمل سحب الشهادة من إمام أوغلو وكثير من الحالات المماثلة، ذلك لأن كثيراً من الطلاب يلجأون إلى الطريقة نفسها لمتابعة دراستهم في الجامعات التركية بعد التسجيل في جامعات أجنبية. وقد أثير موضوع شهادة إمام أوغلو قبل أشهر قليلة وتحول إلى نقاش عام على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف اليومية، وكان رأي رئيس جامعة إسطنبول أن الشهادة سليمة ولا شائبة فيها. الآن قررت إدارة الجامعة سحب الشهادة واعتبارها باطلة.
تكمنُ الأهمية السياسية لشهادة إمام أوغلو في أن الدستور التركي ينص في أحد بنوده على وجوب حصول المرشح لرئاسة الجمهورية على شهادة جامعية. من المعروف أن أكرم إمام أوغلو هو المرشح الأبرز لهذا المنصب في الانتخابات الرئاسية القادمة التي من المفترض أن تجرى في حزيران (يونيو) 2028، بل إن قيادة حزب الشعب الجمهوري قررت إجراء انتخابات تمهيدية (داخلية) لاختيار مرشح للحزب، وقد جرت هذه الانتخابات يوم أمس الأحد 23 آذار (مارس)، وكان هذا الموعد قد تقرر قبل حدوث التطورات الأخيرة. وإذ اعتُقِل إمام أوغلو وأُحيل إلى القضاء وعُزل من منصبه، دعا زعيم الحزب، أوزغور أوزال، جماهير الحزب إلى تحويل هذه المناسبة إلى فعل تضامني مع إمام أوغلو ورفاقه المعتقلين وتصويت رمزي مسبق على رئاسة الجمهورية، ونصب صندوقين للاقتراع في كل مركز انتخابي، أحدهما لأعضاء الحزب، والثاني لعامة الشعب للتعبير عن تفضيلهم. ووفقاً لتقديرات الحزب شارك في هذه الانتخابات الرمزية عدد يتراوح بين 15-20 مليون ناخب، رغم أنها غير إلزامية ولن تؤدي إلى نتائج، بل هي نوع من استفتاء غير رسمي يعبر عن ميول الناخبين. يذكر أخيراً أن إمام أوغلو خاض هذه الانتخابات الرمزية بلا منافسين.
– هل القضية جنائية أم سياسية؟
تقول السلطة إن الأمر يتعلق بقضايا جنائية (فساد وإرهاب)، في حين تقول المعارضة إنها عملية سياسية مدروسة تستخدم فيها السلطة جهاز القضاء لتحقيق أهداف سياسية، وتدلل على ذلك بمحاولة تفنيد الاتهامات واعتبارها مفبركة وكيدية، ودليلها أن مئات ملفات الفساد المتعلقة برؤساء بلديات سابقين من حزب العدالة والتنمية تم تجميدها بقرارات إدارية قبل سنوات وما زالت حبيسة الأدراج، في حين أن ملف قضية الفساد الحالية تستند أساساً إلى «شهود سريين» لا يتم الإفصاح عن هوياتهم.
أما فيما يخص قضية الإرهاب فتقول المعارضة إن السلطة تتفاوض الآن مع عبد الله أوجلان وتقود عملية سياسية بمشاركة حزب الشعوب الديمقراطي، في حين يتم اتهام إمام أوغلو ومساعديه بتقديم الدعم للجهة نفسها، مع رفض هذا الاتهام أصلاً.
– لماذا قد تسعى السلطة إلى قطع الطريق أمام ترشيح إمام أوغلو لرئاسة الجمهورية كما تزعم المعارضة؟
لم يعد سراً أن السلطة تبحث، منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز فيها أردوغان، عن مخرج دستوري يتيح لأردوغان الترشح من جديد لمنصب الرئاسة، بعدما استنفد فرصه الدستورية، ويطرح هذا سيناريوهان محتملان: الأول هو تقديم موعد الانتخابات، والثاني هو إجراء تعديل دستوري فيما يخص عدد الولايات المسموح بها، وفي الحالتين تحتاج السلطة إلى غالبية برلمانية لا يملكها التحالف الحاكم (العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية).
لسد النقص، يمكن إغراء نواب من أحزاب أخرى ممثلة في البرلمان بالانتقال إلى عضوية أحد الحزبين، وقد حدث عدد محدود من هذه الانتقالات في الأشهر الماضية، مع العلم أنها تعتبر بمثابة فضيحة في نظر الرأي العام، ولها سوابق في التاريخ السياسي الحديث في تركيا في السبعينيات. وتراهن السلطة على حزب الشعوب الديمقراطي الذي أبدى حماسة كبيرة للعملية السياسية التي أطلقها دولت بهجلي، وقام عبد الله أوجلان بموجبها بتوجيه نداء لحل حزب العمال الكردستاني وإلقاء سلاحه، بحيث يوافق «الشعوب الديمقراطي» على تعديل الدستور. أما بشأن تقديم موعد الانتخابات الرئاسية، فهذا ممكن نظرياً بالنظر إلى أن الانتخابات المبكرة هي مطلب حزب الشعب الجمهوري منذ فوزه في الانتخابات البلدية العام الماضي. لكن السلطة تخشى إجراء انتخابات مبكرة في وقت بلغ فيه الاستياء الشعبي من الأزمة الاقتصادية مستويات غير مسبوقة، أما الآن، وبعد ردة الفعل الشعبية الواسعة على «عملية إمام أوغلو»، ونتائج استطلاعات الرأي في أسوأ أحوالها من وجهة نظر السلطة، فقد أصبحت أي انتخابات مبكرة مقامرة خاسرة، في رأي المعارضة، لن يخوضها أردوغان.
– لماذا أبكرت السلطة إذن في عملية قطع الطريق على ترشيح إمام أوغلو، إذا صح اتهام المعارضة، وإذا كان موعد الانتخابات بعد أكثر من ثلاث سنوات؟
تعتقد السلطة، وفقاً لتحليلات صحافيين محسوبين عليها، أن ثلاث سنوات زمن طويل يكفي كي ينسى الناس ما يعتقدون أنه ظلم بحق إمام أوغلو، وبخاصة أنه بات عملياً خارج التنافس بعد سحب شهادته، وستهدأ موجة الاحتجاجات بعد فترة ويعود الناس إلى حياتهم الطبيعية وينشغلون بأمور أخرى وما أكثرها. أما الأصوات المعارضة، فلها رأي آخر، إذ يشير حجم المظاهرات الاحتجاجية والشعارات المرفوعة إلى نقمة متراكمة لدى قطاعات واسعة من الشعب بسبب سياسات السلطة وإجراءاتها، ولا يقتصر الأمر على قضية إمام أوغلو وحدها، بل إن شعبية إمام أوغلو بالذات لا تعود فقط إلى مواصفاته الشخصية، وإن كان يملك كاريزما لا يستهان بها، بل لأنه يشكل البديل المحتمل الذي يملك حظوظ النجاح في نظر كل الفئات الشعبية المتضررة من السلطة القائمة. من هذا المنظور يعطيها إمام أوغلو الأمل بالتغيير بعد أطول فترة حكم للسلطة في تاريخ الجمهورية.
– ما هي التداعيات المحتملة؟
الظاهرة الجديدة التي كشفت عنها حركة الاحتجاجات هي أن الناس لم يكترثوا لقرارات منع التجمع والتظاهر التي أصدرها والي إسطنبول وولاة أنقرة وإزمير، فنزلوا إلى الشوارع بأعداد كبيرة مخاطرين بالتعرض للعنف والاعتقال، وبالفعل تم اعتقال مئات المتظاهرين، وحذَّر صحفيون موالون للسلطة الناسَ من التظاهر. وينص الدستور التركي على الحق في التظاهر دون إذن مسبق، بشرط أن يكون سلمياً، في حين استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين في عدة حالات، كما أقامت حواجز لمنع المتظاهرين من الوصول إلى ساحة تقسيم، ذات الرمزية التاريخية، كميدان للتظاهر، وأوقفت بعض خطوط المواصلات بهدف منع وصول مزيد من المتظاهرين إلى أماكن التجمع، كما هددت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بسحب تراخيص القنوات إذا قامت بنقل المظاهرات في بث مباشر أو استضافت صناع رأي يحرضون على «الإخلال بالنظام العام»، ويتم رصد وسائل التواصل الاجتماعي لتحديد من يقومون بهذا التحريض. مختصر القول إن الوضع يشبه، في نظر أقلام معارضة، فرض قانون طوارئ غير معلن رسمياً، وهو ما يعيد إلى الأذهان انتفاضة منتزه غيزي قرب ساحة تقسيم، ربيع العام 2013، التي ما زالت السلطة إلى اليوم تحاكم أشخاصاً بدعوى المشاركة فيها، وأحدث هذه الحالات تتعلق بالصحفي إسماعيل سايمز، الذي اعتُقِل بالتزامن مع اعتقالات قضية إمام أوغلو، ووجهت إليه النيابة هذا الاتهام، مع إلزامه بالبقاء في منزله طوال فترة المحاكمة.
إذا أردنا أن نلخّص يمكننا القول إن السلطة في تركيا تواجه اليوم أخطر تحدٍّ داخلي منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في العام 2016، والتي شكلت مفصلاً مهماً في تحديد المرحلة التالية، فالاستمرار المحتمل للحركة الاحتجاجية من شأنه تغيير المشهد السياسي برمّته. السلطة التي تمكنت من استمالة مشروطة للكرد عن طريق مبادرة بهجلي – أوجلان، يمكن أن تخسرهم مجدداً بعد أن أعلن حزب الشعوب تضامنه الصريح مع حزب الشعب الجمهوري. أضف إلى ذلك الآثار الاقتصادية الكارثية على البرنامج الاقتصادي للحكومة، بعدما بدأت تظهر عليه بعض مؤشرات التحسن التدريجي، فقد هبطت مؤشرات البورصة بصورة حادة، وخسرت الليرة التركية خمس نقاط أمام العملات الصعبة في يوم واحد، قبل أن تستعيد بعض قيمتها بتدخل مكلف من البنك المركز الذي يقال إنه طرح في السوق 26 مليار دولار من مخزونه الاحتياطي لهذا الغرض، بعدما تحمل المواطن سنتين من شد الأحزمة بسبب التضخم المنفلت. وصف أحد الخبراء الاقتصاديين هذه الانتكاسة بأنها أعادت تركيا عامين إلى الوراء.