ما هذا الشيء الذي ينبثق منّا لكنّه يمسكنا من رقابنا ويجرّنا إلى قبورنا، وهناك يدفننا إلى جانب أجدادنا الذين دفنَهم من قبل. لكنّه إذ يعود إلينا باسماً واثقاً، كي يستوطن أبناءنا وبناتنا، تستولي علينا بهجة الإقامة قرب الأجداد؟
ما هذا الشيء الذي لا نرفع أعيننا في وجهه، ولا نناقشه في مشيئته؟ يقول لنا: موتوا، فنموت. يقول لنا إنّ موتنا طريقنا الوحيدة إلى حياة أبنائنا، ولا يلبث أبناؤنا أنفسهم أن يموتوا.
ما هذا الشيء الذي حتّى حين يغطّ في نومه العميق يمضي في توجيه أوامره الصارمة إلينا: نفّذوا فننفّذ؟
ونحن نحبّه كما نحبّ كلّ ما يتململ تحت جلودنا. تَصلُنا به سلسلةُ نظراتٍ، مشبعة بما تحمله النظرة الأولى، نتبادلها في طريقنا المشترك إلى الجنازة. فوق هذا، لا نعرف اسمه، وننكر أن يكون له اسم، بل ننكر أن يكون له وجود. ننكره لكنّنا نَحكّه مثلما نحكّ الجَرَب فتأخذنا متعة تقصّر أعمارنا. وكلّما حاولت أوهام الوقت الضائع أن تُقنعنا بأنّنا أنيقون أناقة النجوم، ورقيقون رقّة الينابيع، أحالَنا كلاباً شاردة تبحث عن طعامها بين مستوعبات القذارة في المدن.
(2)
لم نكن يوماً شبّاناً. فمنذ لحظة ولادتنا انفصلنا عن أمّهاتنا كي نتّصل بالأسلاف الأقدمين بوصفهم هم الأمّهات. وهذا ما جعل منّا، فيما نحن ندبّ على الأرض وتُرضعنا صدور الأمّهات، كهولاً وهياكلَ عظميّة، نقيم لأنفسنا على الدوام جنازات نمشي فيها. هكذا ترانا نوصي أبناءنا، إبّان موتنا، بأن يسيروا على خطانا وأن يقتبسوا منّا أصالة اقتبسناها من آبائنا الذين اقتبسوها من آبائهم.
معه، مع غموض ذاك الشيء، مع قدرته المدهشة على التحكّم، نبقى عالقين في حياة بلا قدمين. ينادينا: هنا فلتقفْ حياتكم، فنُوقِفُها هنا.
لكنّها أيضاً حياةٌ يُخجلنا الإفصاح عنها. فحين تقول الأغنية: سئمنا، نسمع الأغنية سرّاً أو نُخرس المذياع، لكنّنا نرفع صوته حين تقول: لم نسأم…
نحن إذاً سوف نستأنف، والمسيرة سوف تمضي. هيّا إلى السلاح نقتل به ونُقتل. ها نحن نسعى على الدوام وراء مجزرة رائعة.