قبل الثورة السوريّة كانت هناك بالتأكيد حواجز، حواجز عسكريّة وأمنيّة، ولكن لم تحمل تلك الحمولات التي حملتها الحواجز بعد اندلاعها في آذار/ مارس عام 2011. فقبل الثورة، كانت هناك في كل قرية مفارز أمنية، للأمن السياسي والعسكري وأمن الدولة، حتى ولو لم يكن في تلك القرى كهرباء أو مياه أو مدارس، إذ كانت المسألة الأمنيّة، كما في كل ديكتاتوريّات العالم الثالث، تتقدّم في أهميتها على التعليم أو الحدود الأدنى لمتطلبات الحياة. وكانت تلك المفارز تضع حواجز في مداخلها. ولكنها كانت قليلة، على أية حال، بالمقارنة بعدد الحواجز فيما بعدها.
كانت تلك الحواجز توضع في مداخل تلك المفارز، أو الفروع الأمنيّة، أو القطع العسكريّة، لكي تدلّ عليها، ولكي تعني بأنه يُمنع على أي كان تجاوز تلك الخطوط المؤدية إلى المباني الأمنية أو العسكريّة، إلا للعاملين فيها أو المخبرين أو المواطنين الذين يتم استدعاؤهم لمراجعتها. وعادة ما كان القائمون على تلك الحواجز من المتطوّعين الغلاظ المتأهبين للضرب والشتم والتهديد والابتزاز.
حواجز للشبيحة
بالإضافة إلى الحواجز الخاصة بالمقرّات الأمنيّة، كانت هناك حواجز يُمكن تفهّم دورها، حول القطع العسكرية، ومباني الإذاعة والتلفزيون ومقرّات الوزارات والمحاكم الاستثنائية، كمحكمة أمن الدولة والمحاكم العسكريّة، والسجون والبنك المركزي والمشافي العسكريّة. ولكن حتى تلك الحواجز تبدّل دورها، وتغيّرت مهامها، بعد اندلاع الاحتجاجات على نظام الأسد.
فرع الخطيب: مكان اغتصابات وتعذيب وموت تحت التعذيب (Getty)
كانت هناك حواجز أيضًا عند مداخل بيوت، أو حتى أحياء، بعض المسؤولين الكبار في الوزارات وفي الجيش، لحمايتهم من أشياء غامضة بعيدة عن تفكير المواطن في العادة.
ولكن ما كان يُثير الاستغراب هو وجود حواجز في مداخل مقرات فروع حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، دون بقيّة الأحزاب السوريّة الأخرى، المعترف بها والمرخصة وفق قانون الأحزاب، وذلك لأن حزب البعث كان “الحزب القائد للدولة والمجتمع” وفق الدساتير السوريّة المتلاحقة منذ عام 1970 وحتى عام 2012، حيث تم إلغاء المادة 8 التي كانت تنص سابقًا على ذلك.
“تحولت الحواجز بعد 2011 من مجرد نقاط أمنية إلى آلات جبارة لطحن البشر، بفضاءات للاعتقال والتعذيب والإذلال، بسلطة مطلقة تجاوزت كل تصوّر إنساني”
بعد ثورة عام 2011 أصبح هناك للشبيحة حواجز أيضًا، وحواجز للجان الشعبيّة في الأحياء، وهي كانت مختصة، في الظاهر، بحماية الأحياء وسكانها من “المخرّبين” و”الخارجين عن القانون” و”المندسّين”. ولكنها سرعان ما صارت خطوطًا أولى للمخابرات والأمن السوري، وحواجز للإهانات والتهديد والضرب والاعتقال وخطف المواطنين وابتزازهم.
بعد تلك الثورة، إذ صارت من الماضي بعد سقوط نظام الأسد، توالدت عشرات الآلاف من الحواجز الثابتة في المدن والمناطق والأحياء والقرى السوريّة، إضافة إلى الحواجز المؤقتة أو الطيّارة، ولكن هذه المرة مع وجود غرفة تحوي حاسوبًا فيه قوائم المطلوبين للأمن العام والأمن الجنائي وأمن الدولة، وغرف أوسع للاعتقال والتعذيب.
كانت تلك الحواجز عبارة عن عدة أبواب في آن واحد؛ فكانت بابًا لاعتقال الكثير من المتظاهرين وذويهم، وكان يتم تفتيش البطاقات الشخصية ومقارنتها بالقوائم المطبوعة، ومَن كان اسمه في تلك القوائم، حتى لو كان هناك تشابه في الأسماء، كان يتم حجزه في الغرف التابعة لتلك الحواجز، في انتظار سوقه إلى مكانه المطلوب. فمنهم من كان يتم سوقه إلى فرع الخطيب أو فرع فلسطين أو فروع الأمن الجوي أو الأمن الجنائي، وهناك كان منهم من يتم سوقه إلى مكان آخر، أو من كان يُطلق سراحه، أو يُساق إلى السجن بانتظار محاكمته أمام المحاكم العادية أو محاكم الإرهاب، التي تم إحداثها أو تجديدها بعد الثورة، ومنهم من كان يُعتبر، فيما بعد، في عداد المفقودين والميّتين تحت التعذيب.
باب التنكيل
ولكن في تلك الغرف، الخاصة بالحواجز، كانت تحدث الكثير من الجرائم المباشرة بحق من يتم توقيفه. وكان أقل تلك الجرائم هو إهانة الشخص علنًا أمام جنود الحاجز والموقوفين وبقيّة المنتظرين دورهم في التفتيش. وكان يتم إهانة وضرب الآباء أمام أولادهم، وهذا ما قد سبب جراحًا نفسيّة ليس من السهولة البراء منها. ورغم ذلك كانت الناس تحمد ربها لأن الأمر انتهى، بالضرب والإهانة، من دون قتل.
من المظاهرات ضد الأبد السوري في عام 2011 (Getty)
وفي تلك الحواجز كان يتم التنكيل بالكثير من المواطنين، فمنهم مَن كان يلقى حتفه هناك، بسبب وضعه الصحي والمرضيّ الذي لم يحتمل شدّة التعذيب أو الرعب. وكان يتم تسليم جثامينهم إلى أهاليهم على أنهم ماتوا قضاء وقدرًا، باحتشاء في القلب أو هبوط في الدورة الدموية أو جلطة في الدماغ أو القلب. وكان يتم إجبار الكثير من الأهالي على عدم فتح التوابيت، ودفنها مباشرة، تحت طائلة العقاب. فمن الأهالي من دفن تابوتًا فارغًا، ومنهم من دفن تابوتًا يحتوي على عظام عدة قتلى، ومنهم من دفن أموات غيره.
وللأسف تم تسجيل الكثير من حالات الاغتصاب، الفردي أو الجماعي، لفتيات وأمهات. ومنهن من كان يتم قتلهن بعد الاغتصاب، ومنهن من كان يتم سوقهن إلى الفروع الأمنيّة، وإكمال حفلات التعذيب والاغتصاب والولادة هناك، والمحظوظة بينهن كان يتم إطلاق سراحها من الحاجز بعد عدة أيام من الاغتصابات الجماعية، والتهديد بالوصول إليها وقتلها لو تحدثت عما حصل لها في ذلك الحاجز. ومنهنّ من تكتمن عن اغتصابهن خوفًا من العائلة والمجتمع، إذ لا ينظرون إليهن، ويا للأسف، كضحايا يجب الوقوف إلى جانبهنّ وعلاجهنّ نفسيًا وبدنيًا.
الباب الثاني لذلك الحاجز كان باب الابتزاز المالي، حيث كانت سلطة أفراد الحاجز غير محدودة، وحتى لو كان اسم الشخص غير موجود في تلك القوائم المرعبة، فكان يُمكن لأفراد الحاجز أن يقولوا للشخص بأنه مطلوب لجهة أمنية معينة. فليس كل مواطن كان يملك الجرأة لطلب التأكد من وجود اسمه، في تلك القوائم، أمام تلك الوحشيّة المبيّتة. فكان يتم تركه بعد سلبه أمواله وذهب زوجته. مع التهديد والوعيد.
باب الأبواب ومعانيه
الباب الأكثر استيعابًا للأبواب الأخرى، كما فكرة الحاجز نفسه، هو باب الاعتقال؛ فالاعتقال كان يؤدي إلى أبواب عديدة تتضمن كل الأبواب التي قد يعنيها الحاجز، وأبوابًا أخرى زائدة على قدرة الحاجز.
“الحاجز في سورية كان نقطة تؤدي إلى مفترق طرق: طريق يؤدي إلى المقبرة، وآخر إلى المعتقل أو مجتمع المفقودين، وطريق ضيق للنجاة يختصه المحظوظون”
فمن باب الحاجز كان ينفتح باب الاعتقال، والذي كان يعني السجن بعد محاكمة من محكمة الإرهاب أو محكمة عسكرية أو محكمة ميدانية. وكان يعني السجن من دون محاكمة. وكذلك كان يعني التعذيب الشديد الذي قد يؤدي على الأقل إلى عاهة نفسيّة أو إلى عاهة جسديّة، وقد يؤدي إلى الجنون. وهذا ما شاهدته الناس عند فتح معتقلات بشار الأسد بعد سقوط حكمه في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
عشرات الآلاف من المواطنين صاروا في عداد المفقودين، بعدما عبروا ذلك الباب الخاص بالاعتقال. وعشرات الآلاف لقوا حتفهم بطرق مختلفة، منها ما كان بالمكبس البشري، ومنها ما كان بالأسيد، ومنها ما كان بالصعق، ومنها ما كان بالتقطيع المتتالي لأعضاء الجسد، ومنها ما كان بسبب الجوع والعطش. ومنهم من قُتل وساهم في عيش أشخاص آخرين غامضين من خلال نزع أعضائهم وبيعها.
الحاجز، بهذا المعنى، كان يعني استباحة الشخص في بدنه وعرضه وماله وكرامته وحياته وروحه. فالشخص الذي يتم توقيفه عند الحاجز كان يبدو مذعورًا وخاويًا، لأنه كان من السهل، وصار من العادي تفتيشه وتوبيخه وإهانته وضربه والتنكيل به واغتصابه وقتله.
وهكذا كانت الحواجز أبوابًا لطرق أخرى؛ فالحاجز كان يعني، حقيقة، النقطة التي تؤدي إلى مفترق طرق، منها طريق يؤدي إلى المقبرة، ومنها إلى المعتقل، ومنها إلى مجتمع المفقودين، ومنها إلى الإعاقة النفسية، ومنها إلى الإعاقة الجسدية، ومنها إلى الجنون، ومنها إلى النجاة. وباب النجاة هذا بالذات كان ضيّقًا، ولكنّه كان موجودًا، وساهم بنجاة مئات الآلاف من المواطنين المحظوظين الذين أكملوا حياتهم في العوز، أو خارج البلاد.
بالتأكيد صدرت العديد من الروايات والقصص والقصائد، وكذلك البيانات والدراسات والأفلام التوثيقيّة، عن الذي جرى وكان يجري في تلك الحواجز والمعتقلات، مازجة بين الحقيقة والخيال. الخيال الذي تبيّن أنه لا يستطيع أن يُلم بكل الحالات التي جرت، أو أن يصل إلى مستوى الخيال الإجرامي للذين قاموا بذلك. وهذا ما تبيّن لاحقًا مع السِير التي كتبها بعض الضحايا الذين نجوا من تلك الأهوال، أو من خلال الشهادات التي قدموها لكتّاب وصحافيين ومراكز إعلاميّة ومنظمات إنسانيّة، فتبين للمرء أن الحاجز لم يكن مجرّد أكياس رمل وعارضة خشبيّة أو حديديّة يمكن تحريكها، بل كان آلة جبّارة لطحن وتفتيت الأجساد والأرواح.
شارك هذا المقال