قال محمود القماطي، عضو المجلس السياسي في حزب الله “إن اليد التي ستمتد إلى سلاح حزب الله ستقطع”، في ترداد مألوف لأحد أقوال الراحل حسن نصرالله. وجاء كلامه رداً واضحاً على تصريحات متوالية لرئيسي الجمهورية والحكومة، ومن ثم على سياسيين لبنانيين كثرٍ لا يتوقفون على المناداة بحصرية الدولة في امتلاك السلاح. والأرجح، أن القماطي كان يعبّر بلا مواربة عما يختلج في صدر حزبه إزاء العهد السياسي الجديد في لبنان.
وإذ بدا تهديد القماطي “غير مناسب” لواقع حال حزبه، استدرك لاحقاً ليوضح أن كلامه موجّه فقط ضد “الخطاب الاستفزازي الصادر من الداخل”. بمعنى آخر، أوضح القيادي في حزب الله أن السلاح الذي لا يقوى على إسرائيل، ولا حتى على السيدة مورغان أورتاغوس، وبالتأكيد ليس بوسعه بعد اليوم كسر القرار 1701، ولا إسقاط مسيّرة إسرائيلية تعربد في السماء وتقتل يومياً على الأقل كل عضو من حزب الله يتجرأ على مد يده إلى سلاحه المخبأ.. هو سلاح للاستعمال الداخلي وحسب.
وفي الأصل، كان نصرالله قد قال عبارته الشهيرة هذه بوجه أغلبية لبنانية تحديداً، بوجه مواطنيه وحسب. وكانت سياسة “قطع اليد” ابتدأت في خريف 2004، مع أول عبوة اغتيال واستمرت إلى أيامنا المشهودة هذه.
عشرون عاماً كان فيها السلاح “قوياً”.. في الداخل. وقد استُعمل ببراعة تامة، في صناديق الاقتراع، أو في تأليف الحكومات، أو حتى في تنظيم السير، أو في فض نزاع على ملكية عقار أو في وضع بسطة خضار على رصيف. وكان هو “الاقتراح” الوحيد الذي قدمه الحزب في تصوره للبنان. فالمجتمع والثقافة والاقتصاد والفنون والسياسة ومبادئ العدالة والحقوق والواجبات والعلاقة مع العالم، كما تنظيم العلاقة بين الطوائف والجماعات والأفراد، كلها “يدبّرها” السلاح، حياة وموتاً.
وللأسف، لو كانت إسرائيل اليوم منشغلة عن حزب الله، لكان تهديد القماطي قد تُرجِم عملياً، على مثال راجمة الصواريخ تلك التي صُوّبت نحو القصر الجمهوري في بعبدا، حين نطق الرئيس ميشال سليمان بما يشبه كلام الرئيس جوزاف عون عن حصر السلاح بيد الدولة.
ومرة جديدة، لا يسع حزب الله إلا اللجوء إلى الترهيب والتهديد، ولا بمقدوره سوى توسل العنف لفظاً وفعلاً، بوصفه السياسة الوحيدة مع “الشركاء في الوطن”. وقد صارت “القوة” حصراً تجاه الداخل الذي يستفزه باستمرار (حسب اعتراف القماطي)، طالما أن لا مجال لاستخدامها لا ضد إسرائيل ولا قبرص ولا سوريا ولا السعودية.. ولا “الشيطان الأكبر”. أي أن ترسانة الحزب لا عمل لها إلا الاستعداد للحرب الأهلية. وهذا تماماً ما يتناسب مع ما قاله المفتي الشيعي أحمد قبلان، بمؤازرته للقماطي: “أي خطأ بموضوع المقاومة وسلاحها ووضعيتها يفجّر لبنان..”. هكذا، بصراحة مشهودة للشيخ، اللبنانيون مهددون بحرب عليهم وبتفجير بلدهم.
ومن المعلوم والمفترض أن غاية السلاح كانت لتحرير الأراضي المحتلة، ثم أضحت لـ”حماية لبنان”، وبعد ذلك لردع إسرائيل، وفوق كل هذا تحرير فلسطين. ولما تبدد إنجاز التحرير مرة في حرب 2006، التي انتصر فيها الحزب على الداخل لا على إسرائيل، ومرة أخرى إثر “حرب الإسناد والمشاغلة” وما تلاها حتى اللحظة (والمسيّرة الإسرائيلية تطنّ الآن فوق الضاحية، أثناء اقترافنا هذه المقالة)، كما انقلبت مقولة حماية لبنان إلى استباحة وخراب وموت، وتحول “الردع” إلى هزيمة ماحقة ومعلنة في اتفاق مُذل، وصار تحرير فلسطين أبعد مما كان عليه الحال قبل 7 تشرين الأول 2023، ناهيكم طبعاً عن مآل السلاح الذي ضحى بآلاف “الشهداء” لحماية بشار الأسد… فما عاد له من وظيفة، وطبقاً لرغبات القماطي وقبلان وجمهورهما، إلا استخدامه في قطع يد الدولة اللبنانية وجمهورها وأحزابها وطوائفها.
وبالمحصلة، وإذ أقرّ الحزب رسمياً بإخلاء جنوب الليطاني، وتوقفه عن الأعمال العسكرية ضد إسرائيل وفق اتفاق مرعي عربياً وإقليمياً ودولياً، فما سلاحه إلا إشهار عداوة للداخل.
فهل يكون وعد القماطي وقبلان صادقاً، أم مجرد أضغاث أحلام وأصداء حنين لحقبة القوة التي تلاشت؟