ملخص
يحق لنا طرح مقارنة بين واقعنا المعاصر، إذ تُمنع الحركة البشرية إلا ضمن “نظام تصاريح”، والحال الأصلية للبشر التي كانت فيها الأرض بكاملها قابلة للعبور. وفي ظل غياب الكيانات السياسية الكبرى، لم تكن هناك قيود على الحركة البشرية. لكن مع تطور فكرة “الدولة”، ثم ظهور مفاهيم السيادة والحدود الوطنية اختُرع مفهوم “الجنسية” و”جواز السفر”.
اليوم يعيش عدد غير مسبوق من الأشخاص في بلد غير البلد الذي ولدوا فيه. ووفقاً لهيئة السكان التابعة لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة، فقد بلغ عدد المهاجرين الدوليين في العالم 304 ملايين عام 2024، وهو رقم تضاعف تقريباً منذ عام 1990، حينما قدر عددهم بنحو 154 مليون مهاجر دولي.
وشكلت النساء 48 في المئة من إجمال المهاجرين الدوليين، وتعرف الأمم المتحدة المهاجر الدولي بأنه أي شخص غير بلد إقامته بصرف النظر عن وضعه القانوني أو طبيعة أو دوافع تنقله، ولكن هذا التعريف يستخدم لغايات إحصائية.
ويؤكد “الميثاق العالمي للهجرة” الذي أقر عام 2018، أن كل مهاجر بصرف النظر عن وضعه القانوني له الحق في الكرامة والحماية والوصول إلى الخدمات الأساس والتعليم والرعاية الصحية، لكن الواقع يكذب النصوص. ففي المخيمات الممتدة من المكسيك إلى جزيرة لسبوس اليونانية، تجبر الفتيات على الزواج القسري ويستعبد الأولاد في التسول المنظم، وتُبتز النساء والفتيات مقابل سقف أو دواء. حتى في بعض الدول الأوروبية يُحتجز الأطفال المهاجرون دون محاكمة، وتمنع العائلات من حق الإقامة لأسباب بيروقراطية غير مقنعة.
المواثيق الدولية وتطبيقها
على رغم وجود مواثيق دولية تهدف إلى حماية حقوق المهاجرين، فإن السياسات الأميركية والأوروبية تجاه الهجرة غير الشرعية تعد من أوضح الحالات التي تنتهك حقوق الإنسان، وهناك عدد من الدول الكبرى تخالف هذه المواثيق على أرض الواقع، مثل الاحتجاز غير القانوني في مراكز اعتقال دون توافر شروط صحية أو إنسانية قبل أن يُرحلوا قسراً بلا إجراءات قانونية.
وتتعامل بعض الدول مع الهجرة والمهاجرين بحزم وبصورة غير قانونية أحياناً، على رغم أن هناك بدائل مستقبلية ومقترحات حقيقية يمكن أن تسهم في حل أزمة الهجرة بطريقة إنسانية ومستدامة، بحيث توازن بين حقوق المهاجرين وحاجات الدول المستقبلة لهم. وعبر تعزيز التنمية الاقتصادية في بلدان المصدر أيضاً لمواجهة الفقر والظروف الاقتصادية السيئة، وتحديداً البطالة والفساد، لتحجيم هجرة الشباب واليد العاملة.
538041-478558806.jpg
تتعامل بعض الدول مع الهجرة والمهاجرين بحزم وبصورة غير قانونية أحياناً (أ ف ب)
وبحسب مؤسسات ومنظمات دولية معنية بشؤون المهاجرين يمكن تسهيل الهجرة المنظمة والقانونية التي تسمح للمهاجرين بالانتقال بصورة قانونية ومنظمة، ولا تضطرهم للخضوع لمافيات الهجرة غير الشرعية، ولا للغرق في البحار بسبب القوارب المطاطية المكتظة بهم وغير الصالحة للنقل أصلاً، بعد دفعهم آلاف الدولارات لعصابات التهريب التي تعدهم بالوصول إلى الجنة الأوروبية. وهناك برامج الهجرة الموسمية كبرنامج الهجرة العمالية الموقتة الذي تطبقه كندا وأستراليا، والذي يسمح للمهاجرين بالقدوم للعمل فترة محدودة، مع توفير حقوقهم بصورة كاملة.
ولا بد من التذكير بالأرقام أن عدد المهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة الأميركية عام 2024 تجاوز11 مليوناً، واستقبلت ألمانيا أكثر من 1.5 مليون لاجئ ومهاجر منذ 2015، بينما تستقبل إيطاليا وإسبانيا أعداداً كبيرة من مهاجري البحر، إذ سجل آلاف الغرقى منهم في البحر الأبيض المتوسط. ووفقاً لمنظمة الهجرة الدولية، قدر أن 23 ألف مهاجر غرقوا في البحر الأبيض المتوسط بين 2014 و2020، وخلال عام 2022 وحده غرق 1300 منهم.
وكانت أوروبا عانت قبل ذلك أزمة اللاجئين السوريين عام 2015، حين شهدت موجة ضخمة من الهاربين من الحرب الأهلية السورية، وتحديداً إلى ألمانيا والسويد، وأغلقت دول مثل المجر وبولندا حدودها رافضة استقبالهم. وكان قد عبر خلال العام نفسه 28 ألف مهاجر من مختلف الجنسيات بحر القنال الإنجليزي إلى بريطانيا، على رغم الاحتجاز غير القانوني للمهاجرين هناك. وفي عام 2021، بلغ عدد الوفيات 500 حالة في المناطق الصحراوية الحدودية بين الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية.
معاناة المهاجرين
نشرت الأمم المتحدة تقريراً مفصلاً كشفت فيه عن الواقع القاسي الذي يعيشه أكثر من 281 مليون مهاجر حول العالم، وتحديداً منهم الذين يساقون إلى دوائر من الاستغلال والعنف في مخالفة للقوانين الدولية المتعلقة بالهجرة وحقوق المهاجرين، سواء من هاجروا طوعاً أو قسراً، وهذه القوانين كغيرها من القوانين والمواثيق الإنسانية الدولية لا تجد في كثير من الأحيان جهة مخولة أو قادرة على تنفيذها وتطبيقها. وفي العالم اليوم أمثلة كثيرة على تحول المواثيق الإنسانية الدولية إلى حبر على ورق. وبات المهاجر، وتحديداً المصنف بغير الشرعي الذي يحاول الوصول إلى واحدة من الدول المتقدمة عبر الصحارى من جنوب أفريقيا، أو عبر المتوسط في قوارب مطاطية، أو عبر الجدار الفولاذي الذي بات يفصل المكسيك عن الولايات المتحدة، يعامل في حال وصوله إلى وجهته كمتسلل أو مرتكب لجريمة أو كائن فائض عن الحاجة، وتعلق حقوقه التي تنص عليها القوانين الإنسانية الدولية عند أبواب المرافئ، أو عبر إغراق المراكب في البحر، أو بالتوقيف والسجن في سجون جحيمية كما يحصل مع المهاجرين الأفارقة الذين يتمكنون من الوصول إلى ليبيا أو تونس.
هل يشعل ملف الهجرة غير النظامية الحرب في ليبيا مجددا؟
لماذا يسلك الشباب البريطاني الموهوب طريق الهجرة؟
الهجرة غير النظامية تثقل كاهل القطاع الصحي التونسي
هل تهدئ اتفاقات التعاون مع تونس روع أوروبا من الهجرة السرية؟
أشار التقرير المفصل إلى وجود تغيرات كبيرة في أنماط الهجرة العالمية، بما في ذلك ارتفاع عدد المهاجرين ليسجل أرقاماً غير مسبوقة، وازدياد التحويلات المالية الدولية بصورة ملحوظة.
وبمناسبة الإطلاق، قالت المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة إيمي بوب، إن الهجرة الدولية لا تزال محركاً قوياً للتنمية البشرية والنمو الاقتصادي، وهو ما أبرزته زيادة التحويلات الدولية بنسبة تزيد على 650 في المئة خلال الفترة بين عامي 2000 و2022، إذ ارتفعت من 128 مليار دولار أميركي إلى 831 ملياراً، أرسل منها المهاجرون والمهاجرات 647 ملياراً إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، إذ تشكل جزءاً من الناتج المحلي الإجمالي لتلك البلدان.
وتسهم الهجرة من الدول النامية إلى المتقدمة في تخفيف الضغوط الاقتصادية على البلدان الأصلية، إذ تتحسن أوضاع المهاجرين المالية بفضل دخولهم إلى أسواق العمل الأكثر تقدماً، وتسهم في البلدان المستقبلة للمهاجرين بتعزيز النمو الاقتصادي من خلال العمل في قطاعات العمالة غير الماهرة أو المتخصصة التي تعاني نقصاً. ويحسن المهاجرون من الإنتاجية الاقتصادية من طريق إضافة خبرات متنوعة ومهارات خاصة. فعلى سبيل المثال في قطاع الصحة، توفر العمالة المهاجرة العاملين الطبيين والممرضين داخل الدول التي تعاني نقصاً في الكوادر الصحية، مثل الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وكذلك الأمر في قطاع البناء.
AFP__20250404__2208528427__v1__Preview__ImmigrantsReceiveAssistanceDuringTimeOfUncer.jpg
مع تطور مفاهيم الدولة والسيادة والحدود، اختُرعت “الجنسية” و”جواز السفر” (أ ف ب)
ويعد المهاجرون بمثابة جسر ثقافي وتجاري بين البلدان المستقبلة والمصدرة، إذ يساعدون في تعزيز العلاقات التجارية من خلال تبادل السلع والخدمات، على سبيل المثال تمكن المهاجرون من الصين والهند من الإسهام في زيادة التجارة بين دولهم الأصلية والدول الغربية، عبر مناصرتهم للمنتجات الوطنية وتعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر.
تعريف الهجرة وأهميتها
تعد الهجرة ظاهرة ملازمة للوجود البشري منذ فجر التاريخ، فالإنسان العاقل بدأ بالتحرك من موطنه الأول في شرق أفريقيا قبل ما يزيد على 70 ألف عام، وفقاً لما تؤكده الأبحاث الوراثية والأنثروبولوجية، لينتشر تدريجاً في آسيا ثم أوروبا ومنها إلى بقية القارات، مشكلاً بذلك أول شبكة عالمية من التنقل البشري العابر للمسافات، من دون وجود دول أو حدود أو جوازات سفر.
ويحق لنا طرح مقارنة بين واقعنا المعاصر، إذ تُمنع الحركة البشرية إلا ضمن “نظام تصاريح”، والحال الأصلية للبشر التي كانت فيها الأرض بكاملها قابلة للعبور. وفي ظل غياب الكيانات السياسية الكبرى لم تكن هناك قيود على الحركة البشرية، لكن مع تطور فكرة “الدولة” ثم ظهور مفاهيم السيادة والحدود الوطنية، اختُرع مفهوم “الجنسية” و”جواز السفر”.
وتؤثر هذه الحدود في التطور البيولوجي للإنسان، إذ تمنع التزاوج الحر بين الشعوب، مما قد يعوق التنوع الجيني الضروري لمقاومة الأمراض وتطور الأجيال. وتشير الأبحاث العلمية إلى أن الهجرات الكبرى الأولى التي حدثت منذ نحو 70 إلى 100 ألف عام كانت قد تسببت في انتقال التكيفات الجينية بين البشر على نطاق واسع. وتعرقل الحدود بين الدول التبادل المعرفي والحضاري. وتخلق فجوات ضخمة بين دول الشمال والجنوب.