يُعدّ الخطاب الإعلامي الغربي أحد أبرز الأدوات التي تُسهم في تشكيل التصورات العامة تجاه القضايا الدولية، لا سيّما النزاعات في منطقة الشرق الأوسط.
وفي السياق السوري، وعلى مدار أعوام الثورة الأربعة عشر، برزت أنماط خطابية تعكس مستويات مختلفة من التحيز، سواء من حيث انتقاء المصطلحات أو انتقاء المصادر أو التركيز على سرديات معينة.
يستخدم الخطاب الغربي جملة من الآليات والاستراتيجيات التي تؤثر في المتلقي، من بينها التأطير (framing) الذي يختار زوايا معينة لإبراز جوانب محددة ومعالجة الأحداث ضمن سياقات تختصر الواقع وتوجه المتلقي نحو فهم مسبق، والتركيز الانتقائي (selective emphasis) الذي يركز على آراء جهات فاعلة دون غيرها بما يتناغم مع أجندات سياسية ويُهمش الأصوات المعارضة، والتمهيد (priming) لتهيئة المتلقي لقبول سردية معينة من خلال اختيار الموضوعات وترتيبها وتركيز التغطية عليها، إلى جانب التلاعب باللغة من خلال استخدام مفردات ذات حمولة أيديولوجية أو عاطفية. تهدف هذه الاستراتيجيات إلى إعادة إنتاج فهم معين للصراع، يخدم أجندة القوى الفاعلة في المشهد الإعلامي الغربي ويؤثر في مواقف الرأي العام تجاه الأطراف المتنازعة.
لم يقتصر التحيز على فترة سنوات الثورة، وامتد لما بعد سقوط النظام وصولاً لأحداث الساحل السوري في آذار 2025، حيث تُشير تغطية المؤسسات الإعلامية الغربية إلى ميل واضح لتكريس مظلومية الطائفة العلوية مع تقليل أو تجاهل خسائر قوات الأمن الحكومية.
وقد برز هذا التحيّز عبر أربع استراتيجيات لغوية رئيسية: التأطير Framing، والانتقاء المنهجي للمصادر Selective Sourcing، واللجوء إلى التراكيب النحوية المبنيّة للمجهول Passives، واستخدام الافتراضات المسبقة Presupposition لإضفاء “مصداقية” ضمنية على سردية مظلومية العلويين. لتوضيح وشرح هذه الاستراتيجيات بشكل أوسع، تتناول هذه المقالة أمثلة من صحف ومؤسسات بارزة مثل بي بي سي، والغارديان، ورويترز، والتايمز، إضافة إلى فرانس 24 وغيرها، لتوضيح كيف أسهم الخطاب الإعلامي الغربي في توجيه الشارع الغربي نحو انطباع أحادي الجانب للأحداث في الساحل السوري.
بدايةً، استخدمت البي بي سي مصطلحات ذات طابع انفعالي لإثارة عاطفة الجمهور مثل “مجازر” و “هجوم عنيف ضد المدنيين” و”إعدام النساء والأطفال”، واعتمدت على استراتيجية لعبة الأرقام Game Number التي تتضمن اللعب على وتيرة تضخيم أرقام الضحايا والتركيز الموضوعي Topicalization الذي يتضمن تسليط الضوء على فكرة معينة في العناوين كأدوات إيديولوجية وظفتها في ترسيخ سردية إبادة الطائفة العلوية.
برزت هذه الأدوات بوضوح في عناوينها، ما أسهم في تعزيز المظلومية العلوية وتقزيم خسائر قوات الأمن الحكومية، ومن هذه العناوين: “مقتل المئات من أبناء الطائفة العلوية في سوريا” و”اتهامات لقوات الأمن السورية بقتل مئات المدنيين” و”عائلات بأكملها قُتلت في أعمال العنف الأخيرة في سوريا”.
أما الغارديان البريطانية فقد عنونت خبرها “قوات الأمن السورية تعدم 125 مدنياً خلال معارك مع موالين للأسد”.
ويتضح جلياً من هذه العناوين أن ما جرى في الساحل تم تأطيره ضمن إطار سردية معينة مفادها أن قوات الأمن (جهة رسمية) ترتكب “مجازر” بحق جهات مدنية من طائفة معينة مع تجاهل كامل لضحايا قوات الأمن أو على الأقل الإشارة إلى أن ما حصل هو رد فعل وليس فعلاً قائماً بذاته، مما يقلل من أهمية الخسائر في صفوف قوات الأمن في وعي الجمهور.
تبنّت الماكينة الإعلامية الغربية أيضاً منهجية الانتقاء المنهجي للمصادر، حيث اعتمدت التقارير بشكل رئيس على بيانات المرصد السوري لحقوق الإنسان وهيومن رايتس ووتش والشبكة السورية لحقوق الإنسان لتعزيز مرجعية أرقام الضحايا العلويين، التي وصفت أحداث الساحل بالغالب على أنها إعدامات خارج نطاق القانون “extrajudicial killings”.
أكثر الاستراتيجيات والأدوات اللغوية فتكاً فهي الاختيارات المعجمية Lexical Choices التي تحمل دلالات ذات طابع أيديولوجي معين يتم استخدامها بشكل متكرر لتتحول معها سردية الخطاب الإعلامي إلى أمر مسلم به من قبل الجمهور يصعب تغييره أو مقاومة تياره الجارف.
في المقابل، تم تجاهل أو تهميش البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية وقيادات قوات الأمن التي وثقت مقتل العشرات من عناصرها خلال الهجوم الأولي، كما أن وسائل الإعلام الغربية لم تتحقق من نسب القتلى بين القوات الحكومية مقارنة بالمدنيين العلويين.
استخدمت التقارير الغربية أيضاً عبارات مبنية للمجهول مثل “were extrajudicially killed” (قُتلوا خارج نطاق القانون) لإخفاء هوية الفاعل وصرف النظر عنه وتوجيه اهتمام القارئ إلى العاطفة الإنسانية دون التحري عن المسؤول الحقيقي عن هذه الانتهاكات. كما لجأت بعض التقارير، مثل تقارير ذا تايمز، إلى عبارات تحمل افتراضات ثابتة مثل اقتباس “تم سؤال الضحية قبل إعدامه: هل أنت علوي؟” ما يجعل الطابع الطائفي على أنه مسلّم به دون نقاش. كما استُخدمت أفعال مساعدة وعبارات تفيد الاحتمالية مثل (“قيل” و “هناك أنباء عن” و “حسب ما أفاد”) لخلق فجوة نقدية بين القارئ والحدث، ولإظهار التغطية وكأنها محايدة وتتحرى الدقة والموضوعية.
أما أكثر الاستراتيجيات والأدوات اللغوية فتكاً فهي الاختيارات المعجمية Lexical Choices التي تحمل دلالات ذات طابع أيديولوجي معين يتم استخدامها بشكل متكرر لتتحول معها سردية الخطاب الإعلامي إلى أمر مسلم به من قبل الجمهور يصعب تغييره أو مقاومة تياره الجارف.
في مقال نشرته رويترز، تُعزز مصطلحات مثل “العنف المميت” و”القتل الجماعي” و”سفك الدماء بدافع الانتقام” صورة العنف الفوضوي الذي تم إلصاقه بالقوات الحكومية، لا سيما مع استخدام كلمات ذات طابع أيديولوجي مثل “بقيادة إسلامية” أو “مرتبطة بهيئة تحرير الشام” وبالتالي اللعب على وتر الإسلاموفوبيا، مما يمثل الحكومة سلبًا، لا سيما في المجتمعات الغربية.
على النقيض من ذلك، يشير المقال إلى فلول الأسد الذين شنوا الهجمات ضد قوات الأمن بـ”الموالين للأسد والمدنيين والمؤيدين”، مما يُقدمهم للقارئ بطريقة إيجابية ويعزز مظلوميتهم ويضفي الشرعية على أفعالهم.
يبدو جلياً أن رويترز والغارديان تُصوّران أحداث الساحل على أنها صراع طائفي عبر استخدام مصطلح “العلويين” بدلاً من فلول النظام السابق، في محاولة لبناء سردية طائفية وتصوير الهجمات على أنها صراع طائفي لا مفر منه بعد التحول الكبير الذي طرأ على المنطقة. في السياق نفسه، دأبت فرانس 24 على تكرار مصطلحات مماثلة شملت “ميليشيات ومجازر وإراقة الدماء وقتل المدنيين” لتتماهى مع مثيلاتها في شيطنة قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة، وتقديم الفلول بشكل إيجابي كضحايا مدنيين، مستغلةً بذلك المشاعر الطائفية وشماعة الأقليات.
إن مواجهة التحيّز الإعلامي ليست رفاهية أكاديمية، بل ضرورة أساسية، ولا بد من إجراءات تقوم بها السلطات ممثلة بوزارتي الخارجية والإعلام للتصدي لهذه السياسات الإعلامية بشكل احترافي يتضمن نقض سرديات إعلام القطب الواحد عبر اتباع آليات واستراتيجيات إعلامية ولغوية احترافية.
ختاماً، لقد أظهر هذا التحليل كيف وظّف الإعلام الغربي مجموعة متكاملة من الآليات اللغوية –بالإضافة إلى آليات كثيرة لا مجال لشرحها هنا– لتصوير طرف على أنه المتضرر الوحيد في الساحل السوري، مع طمس أو تهميش الخسائر التي لحقت بقوات الأمن الحكومية، مما خلق سردية أحادية الجانب لتوجيه الرأي العام الغربي. وهنا لا بد من التنويه إلى أن الانتهاكات بحق المدنيين لا يمكن تبريرها بتاتاً، وأن بناء آليات لمحاسبة المتورطين بارتكاب الانتهاكات هو مطلب كل سوري وطني، لكن هذا ليس مدعاة للاستسلام لأجندة إعلام يتبنى رواية أحادية الجانب ويتبنى سردية معينة تكرس مظلومية طرف وتتجاهل الانتهاكات المرتكبة بحق الطرف الآخر بما في ذلك النيل من هيبة الدولة والهجوم على قوات الأمن. إن مواجهة التحيّز الإعلامي ليست رفاهية أكاديمية، بل ضرورة أساسية، ولا بد من إجراءات تقوم بها السلطات ممثلة بوزارتي الخارجية والإعلام للتصدي لهذه السياسات الإعلامية بشكل احترافي يتضمن نقض سرديات إعلام القطب الواحد عبر اتباع آليات واستراتيجيات إعلامية ولغوية احترافية تشمل رصد دوري لأبرز ما يُنشر عن الشأن السوري، وتحليله وكشف التزييف إن وجد، وابتداع طرق غير تقليدية، بما في ذلك عبر المنصات الرقمية والإعلام الموازي، لنقض الروايات المضللة وخلق مساحة إعلامية جيدة لسردية موازية تضمن لنا موضع قدم في صناعة الرأي العام الغربي والعربي معاً.
*ملاحظة: تستند هذه المقالة بشكل جزئي إلى بحث أكاديمي موسع بعنوان: الإطار الخطابي للإعلام الغربي في تغطية الأحداث الأخيرة في الساحل السوري: التحليل النقدي للخطاب، كنت قد نشرته مؤخراً بالشراكة مع الباحث حسام بدوي في مجلة جامعة الشام.
google newsتابعنا عبر Google News