مع سقوط نظام بشار الأسد الفار أُزيلت صوره من جميع المؤسسات الحكومية والميادين والشوارع، لكنها بقيت على العملة السورية التي يحملها كل مواطن اليوم بيده، لترتفع الأصوات المنادية بين الحين والآخر باستبدال العملة السورية التي تحمل صور الأسد الأب والابن بعملات جديدة وحذف أصفار من العملة الحالية، كخطوة إصلاحية ذات أثر مزدوج مالي ونفسي وإعلان حقيقي عن بداية جديدة في الإدارة المالية للبلاد.
وهنا يبرز السؤال الذي يطرح نفسه: هل تنقذ عملية حذف الأصفار من العملة القديمة وإصدار عملة جديدة اقتصاد سوريا المُنهار؟ وما تداعيات هذا الإجراء على الحركة الاقتصادية؟
ما معنى حذف الأصفار من العملة؟
حذف الأصفار هي العملية التي يتم بموجبها تعديل القيمة الأساسية لعملة البلد، بسبب ارتفاع نسب التضخم وانخفاض قيمة العملة. وهو نهج ليس جديد بل اتبعته دول عديدة في العالم مثل العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ودول الاتحاد السوفيتي السابق بعد تفككه، وكذلك ألمانيا وتركيا وإيطاليا وغيرها من الدول.
وكان مصدر مسؤول في مصرف سوريا المركزي قال في تصريح إعلامي سابق، إنه من غير المستبعد حذف ثلاثة أصفار من العملة السورية، بحيث تصبح الألف ليرة الحالية تساوي ليرة واحدة من العملة الجديدة. وأضاف أن ضخ العملة الجديدة في الأسواق يحتاج لفترة تتراوح بين 6 أشهر وعام لضمان انتقال سلس دون اضطرابات مالية.
وفي ذات السياق، كان قد كشف رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، بعد أيام من سقوط النظام السوري المخلوع، في تصريحات صحفية، عن اعتزامه إصدار عملة جديدة في سوريا لكن بعد استقرار وتحسن قيمة العملة الحالية.
الفوائد والتداعيات الاقتصادية
في تصريحات لموقع ‘‘963+’’، أوضح الخبير الاقتصادي ونائب رئيس غرفة تجارة دمشق سابقاً الدكتور ياسر الكريم، أن حذف الأصفار هي عملية مهمة تهدف إلى إعادة الهيبة والثقة للعملة السورية وتُنشط الحركة الاقتصادية وتُعيد النظر بقيمة النقد والتضخم، وتُلبي مشروع إعادة الإعمار.
ومن جهة أخرى، فإن حذف الأصفار يُخفف العبء النفسي والمادي المرتبط بتداول مبالغ نقدية ضخمة. فاليوم، بات حمل رواتب أو مدفوعات يومية يتطلب أكياساً وحقائب، ما يثقل كاهل المواطن ويعرضه لمخاطر أمنية وسرقات، ناهيك عن الإحراج الاجتماعي وتدهور الثقة بالعملة، وفق الكريم.
وتابع قائلاً إن ‘‘لمشوار تسوق عادي نحن بحاجة لحقيبة مليئة بكمية ضخمة من النقود والمواطن يستغرق الكثير من الوقت في عملية العد والحساب، لذا يجب اتباع سياسة حذف الأصفار، لأن في ذلك راحة للبائع والمشتري حيث تبسط المعاملات اليومية وتخفف الضغط على الأنظمة المحاسبية وتقلل من حجم النقد المتداول وبالتالي تنشط بها الحركة التجارية’’.
بينما يرى الخبير الاقتصادي ورئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، الدكتور باتريك مارديني، أن حذف الأصفار إجراء تجميلي ليس له فوائد اقتصادية، موضحاً أنه ‘‘من حيث المبدأ يتم التسويق بأن الهدف من هذا الإجراء هو تسهيل الحسابات والعد، ولكن في الحقيقة يؤدي بالمستقبل إلى انهيارات جديدة وأصفار جديدة تُخسّر المواطن قدرته الشرائية وتضعه تحت خط الفقر’’.
وأضاف مارديني في تصريحات لموقع ‘‘+963’’، أن تجارب بلدان عديدة حول العالم أثبتت أن هذا الإجراء لم يساهم في استهداف التضخم، بل على العكس الأصفار التي حُذفت عادت مع تدهور قيمة العملة المحلية من جديد، وانهيار سعر الصرف مقابل الدولار.
وتابع قائلاً إن ‘‘هذا الإجراء لا يعالج جوهر الأزمة الاقتصادية في سوريا، والمتمثل بارتفاع معدلات التضخم ونقص السيولة، لذا الحذف دون إصلاح اقتصادي شامل لا يعالج الأسباب الحقيقية لانهيار العملة يُعد إجراء شكلي’’.
اقرأ أيضاً: الليرة السورية تتعافى أمام العملات الأجنبية
التوقيت المناسب والحلول الممكنة
ولدى سؤاله عن إمكانية حذف الأصفار من العملة السورية في هذا التوقيت، أجاب مارديني أن التوقيت غير مناسب في ظل عدم وجود استقرار اقتصادي يُمكّن من توفير الموارد المالية الكافية لتغطية طباعة العملة الجديدة مع ضبط معدلات التضخم، لذا وفق مارديني فإن حذف الأصفار يظل مجرد حل مؤقت إذا لم يُعالج السبب الجذري للتضخم.
وينصح الأكاديمي اللبناني، أن تكون عملية حذف الأصفار بالتوازي مع تغيير جذري بالسياسة النقدية وانتهاج سياسة مجلس النقد أو ما يعرف ‘‘currency board‘‘في سوريا. فيقول: ‘‘الحل هو إنشاء مجلس نقد، يحل مكان المصرف المركزي السوري ولا يطبع ليرة سورية إلّا أن يأخذ في المقابل دولار على سعر صرف ثابت، وبالتالي يكون احتياط الدولار الموجود لدى المصرف المركزي يوازي كمية النقد السوري بالتداول على سعر صرف ثابت’’.
ومجلس النقد هو سلطة نقدية ينشئها البنك المركزي للحفاظ على سعر الصرف الثابت للعملة الأجنبية، ويهدف إلى إدارة سعر صرف عملته الخاصة بغرض تثبيت العرض النقدي والتحكم في التضخم.
وفي حال تم حذف الأصفار مع الإبقاء في نظام المصرف المركزي هناك احتمال لعودة التضخم وازدياد الأصفار وانهيار سعر الصرف، ولكن إذا تم حذف الأصفار مع إصدار عملة جديدة بدون مصرف مركزي وإنما مجلس نقد ‘‘currency board‘‘فذلك يمنع تدهور سعر الصرف وزيادة الأصفار مستقبلاً، وفق مارديني.
من جهته، أكد الخبير الاقتصادي السوري شادي أحمد، على أن طباعة أي عملة ورقية جديدة في هذا التوقيت يعتبر زيادة في التضخم النقدي وفي عرض الليرة السورية، منوهاً إلى أنه ‘‘لا يوجد في سوريا حتى الآن أي مؤشر حول زيادة النشاط الاقتصادي بل على العكس هناك تباطؤ في ذلك’’.
وأضاف في حديثه لـ‘‘963+’’، أنه ‘‘على الرغم من أن هناك تحسن بسعر صرف الليرة السورية ولكن هذا التحسن ليس لأسباب اقتصادية أو نقدية بل لأنه تم حبس السيولة وفتح السوق السوداء على مصراعيها أمام ما نسميه سوق الصرف عن طريق البسطات’’.
وأشار أحمد إلى أنه لا يمكن أن تكون الإصدارات الجديدة حل اقتصادي بل يجب أن يسبق التطور الاقتصادي أي عملية إصدار وليس العكس.
اقرأ أيضاً: تحسن الليرة السورية في السوق السوداء: ندرة السيولة أم تحسن اقتصادي؟
ما مصير العملة التي تحمل صورة بشار الأسد؟
ومن المفترض أن تكون العملة الوطنية هي رمز يشير لتاريخ الدولة وهويتها، ولكن في سوريا تحولت إلى أداة لفرض هيمنة الحاكم ورمز لتكريس شخصيته عندما قامت عائلة الأسد بإصدار عملة من فئة الألف ليرة تحمل صورة الأسد الأب ومن فئة الألفي ليرة تحمل صورة الأسد الابن وتم تداولها على مدار عقود.
وللإجابة عن التساؤل حول مصير تلك الأوراق النقدية، عقّب نائب رئيس غرفة تجارة دمشق سابقاً، أنه يجب تغيير العملات التي تحمل صورة عائلة الأسد وتغيير الفئات والألوان واعتماد أوراق نقدية ذات جودة عالية.
وقال الكريم: ‘‘إصدار عملة جديدة بتصميم جديد يتضمن فقط رموز وشعارات وطنية تعكس الهوية السورية مثل المعالم التاريخية والرموز الثقافية سيساهم في تحسين المزاج العام، واستعادة الثقة بالنظام النقدي وإعادة بناء الهوية الوطنية’’.
وفي ظل الأحداث السياسية والاقتصادية التي مرت بها سوريا، والتي كان لها تأثير مباشر على الاقتصاد المحلي وسعر الصرف، فإن تبديل العملة ليس مجرد خطوة نقدية، بل جزء من معالجة أعمق تتعلق بالكرامة والهوية والسيادة الاقتصادية، وإذا ما اقترنت هذه الخطوة بإرادة حقيقية في الإصلاح، فقد تشكّل بداية لمرحلة أكثر توازناً واستقراراً في حياة السوريين.
