لن تموت أبداً النكتة التي اطلقها يوماً الراحل الكبير محسن إبراهيم، أبو خالد، على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أبو مازن، وتقول: “منذ أن أطلقت حركة “فتح” الرصاصة الأولى على العدو الاسرائيلي في 1/1/1965، خرج أبو مازن مسرعاً وراءها..من أجل إستردادها!”، إيماناً منه بعبثية الكفاح المسلح الفلسطيني في ظل موازين قوى عربية وعالمية ترجح الغلبة الإسرائيلية.
الرئيس عباس الموجود الآن في بيروت، والذي لم يتخلَ يوماً عن موقفه من السلاح والبندقية والمقاومة، لن يكون، لهذا السبب بالذات، مثار جدل لبناني إضافي، لأنه، وكما في زياراته العديدة السابقة الى لبنان، يردد في لقاءاته الرسمية ومجالسه الخاصة، أن اللاجئين الفلسطينيين ضيوف على الدولة اللبنانية، ومخيماتهم لن تكون خارجة على القوانين اللبنانية، وسلاحهم هو بعهدة، أو حتى بأمرة المؤسسات اللبنانية.
فحوى هذا الموقف الرسمي الفلسطيني، المكرر والمعاد، هو ان اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ليسوا بحاجة الى السلاح، لأنه لم يعد لديهم مشروع مقاومة أو جبهة قتال مع العدو من داخل الأراضي اللبنانية، منذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان منذ العام 1982. وهو ما يتيح الاستنتاج مجدداً، بأن عباس جاء ليعرض، ضمناً، على الدولة اللبنانية أن توسع عملية نزع سلاح حزب الله، لتشمل السلاح الفلسطيني، وهي المهمة التي نفذت بوتيرة متسارعة في الأسابيع القليلة الماضية خارج المخيمات الفلسطينية، لا سيما في المواقع التي كانت رديفة لقوات النظام السوري السابق ولحزب الله نفسه.
لكن زيارة عباس لن تسهم في إفتعال مشكلة فلسطينية – لبنانية. فالرئيس الفلسطيني الذي يودع السلطة بالشتائم القاسية لمقاتلي حركة “حماس” في قطاع غزة، يعرف جيداً أن الدولة اللبنانية، ليست قادرة على تحمل مسؤولية المخيمات الفلسطينية وأسلحتها وتنظيماتها المتصارعة في لبنان بحدود تحفظ التعايش في ما بينها، والتكيف مع البيئة اللبنانية، التي سبق ان رددت زجل “التوطين المحرّم” لعقود طويلة ماضية قبل ان تلاحظ أنه لم يعد في لبنان، سوى أقل من مئتي ألف لاجئ فلسطيني، أي ما يعادل عشرة بالمئة من عدد النازحين السوريين.
سلاح المخيمات لن يكون أزمة، إلا عندما تحدث إشتباكات فلسطينية داخلية، لن يكون بمقدور الجيش اللبناني أن يكبحها، لا سيما وأن أحداً في لبنان يود أو يقبل بأن يقتحم الجيش المخيمات ويجردها من السلاح. فهذه مسؤولية أمنية بالغة الحراجة والخطورة، وهي لا تعالج إلا ب”الأمن الداخلي” المشترك الفلسطيني اللبناني، الذي يضمن أولاً تجريد المخيمات من السلاح الثقيل والمتوسط.. مع ما يعنيه ذلك من مصالحة فلسطينية-فلسطينية خاصة بلبنان، تفرضها حاجات الوجود الفلسطيني ومصالحه وحساسيات الوضع اللبناني ومتطلباته.
ليس من مصلحة أحد في لبنان، لاسيما في الظرف الراهن، لاسيما بعد الهزيمة الساحقة التي مني بها حزب الله، رفض “العرض” الذي يحمله عباس بحصر السلاح (الفلسطيني) في يد الدولة اللبنانية، لكن الحكمة تقتضي أن يتم إدراج موقف الرئيس الفلسطيني في سياق سياسي إلزامي يؤدي الى تلك المصالحة الفلسطينية المنشودة، على الساحة اللبنانية حصراً، لا أن يكون سبباً إضافياً للمواجهة بين فرقاء السلاح الفلسطيني الباقي في المخيمات، والمرفوض قطعاً من قبل اللبنانيين من دون استثناء ، ومن الفلسطينيين المقيمين على أرض لبنان، والذين يعتبرونه سلاح فتنة، لا أكثر ولا أقل.. وكان ينبغي نزعه بعد العام 1982.
المبادرة في هذا الاتجاه لا تكون إلا فلسطينية، من سلطة رام الله، ومن سلطة حماس، التي إرتكبت خطأ فادحاً عندما فكرت في إشراك “حزب الله” مباشرة في طوفان الأقصى في العام 2023، حسب الوثائق المنشورة أخيراً، وعندما سعت الى خرق إتفاق وقف اطلاق النار على الجبهة اللبنانية، قبل أن تسلّم الصواريخ ومطلقيها الى الدولة اللبنانية..عملاً بمقتضيات النهج الذي رسمه محمود عباس منذ أن بدأ بملاحقة الرصاصة الأولى..من أجل إستردادها.
بيروت في 22/5/2025