هل هي مصادفة أن يتحرك الجيش الاسرائيلي دفعة واحدة في اتجاه غزة ولبنان وربما ايران، في وقت يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعثر الى استعادة زخمه في ملفات دولية عدة، أم أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو قرر استغلال هذا التعثر لاستعادة المبادرة ومنع الأميركيين من التوصل الى اتفاقات أو صفقات لا تراعي أمن الاسرائيليين في المطلق ولا تبقي قرارات الحرب والسلام في أيديهم في المفاصل الحاسمة؟
ما جرى في مرفأ رجائي في بندر عباس، وعلى الرغم من النفي الاسرائيلي، لا يبرئ نتنياهو الذي يعتبر القضاء على الطموحات النووية والصاروخية الايرانية شرطاً وحيداً في أي اتفاق جديد بين واشنطن وطهران، وما يجري في غزة لا يؤشر الى أي نية لديه لوقف الحرب أو القبول بدولة فلسطينية مستقلة، وما أصاب الضاحية الجنوبية في الأمس لا يدل على أن الرجل مستعد للتعامل مع القرار ١٧٠١ كما تعامل معه بعد “حرب تموز” في العام ٢٠٠٦ أو التفرج على “حزب الله” وهو يعيد بناء نفسه، أو منح الدولة اللبنانية الوقت الذي تريده لانتقاء الطريقة التي تراها مناسبة لنزع السلاح غير الشرعي والسيطرة على لبنان من أقصاه الى أقصاه.
ويتردد في أوساط تل أبيب أن الحزب نجح في كسب معركة الوقت مع الحكم الجديد في بيروت، وبات في موقع يسمح له بالذهاب الى أي حوار مع الرئيس جوزاف عون، ليس على تسليم السلاح بل على ايجاد صيغة شرعية له تبقيه في الاحتياط وتبقي عناصره في الميدان.
وتضيف الأوساط نفسها، أن اصرار الدولة اللبنانية بشقيها الرئاسي والحكومي على عدم اتخاذ موقف متوازن ومتزامن يدعو اسرائيل الى الانسحاب من النقاط الخمس و”حزب الله” الى تسليم سلاحه كما ينص القرار ١٧٠١، يشكل خرقاً رسمياً لبنانياً لقرار لبناني – اسرائيلي – عربي – أميركي – دولي، ويضع لبنان في موقع الطرف الذي يخاطر باستجلاب الحرب مجدداً بدل أن يحاول استعادة سيادته في الداخل وسلامه مع الخارج.
وسواء كان التسويق الاسرائيلي – الدولي على حق أو لا، يكاد يجمع جميع المعنيين بالقرار ١٧٠١ على أن “حزب الله” ومعه ايران استفادا كثيراً من انتقال الدولة اللبنانية من وعد الالتزام الى وعد الحوار، وباشرا بارسال اشارات ميدانية تشبه ما كان يجري قبل “حرب الاسناد”، منها التعرض لقوات “اليونيفيل” في بعض البلدات الجنوبية، وتكليف “عناصر غير منضبطة” تحريك الجبهة اللبنانية – الاسرائيلية من وقت الى آخر، اضافة الى تحريك الجبهة اللبنانية – السورية شرقاً بالتزامن مع تصريحات ومواقف سياسية تؤكد لاسرائيل أن أمنها ليس في أمان، وتؤكد للرئيس عون أن السلاح سيبقى في مكانه في العام ٢٠٢٥ وكل الأعوام التي تليه.
وذهب بعض المحللين بعيداً في تكهناته الى عدم استبعاد عامل الاعتداء على آلية الجيش اللبناني ومقتل ثلاثة من جنودها وليس عامل الانفجار العرضي، مرجحاً أن يكون في الأمر رسالة الى كل من “اليونيفيل” والجيش تفيد بأن الجنوب لن يكون الا للقوة العسكرية التي اعتادت التحكم به والسيطرة عليه في مدى أربعين عاماً.
وقد يكون في تكهنات المحللين الكثير من المبالغات وحتى الافتراءات، لكن لا شيء يوحي بأن الحزب مستعد للخروج من محور الممانعة، أو فك تحالفه العضوي مع ايران وسفيرها الذي تحول بالنسبة اليه مرجعاً سياسياً مباشراً، اضافة الى “الحرس الثوري” الذي يتهالك لمده بالسلاح والمال بأي طريقة ممكنة.
وأكثر من ذلك، لا شيء يوحي بأن الحزب في وارد التسليم بهزيمته، أو الانخراط في الدولة وجيشها، أو اعتبار الدستور والقوانين بديلاً من السلاح، أو الوصول الى الانتخابات النيابية المقبلة أعزل أو عارياً من أي قوة مالية أو عسكرية لا تعيده الى البرلمان قوة نيابية ضاغطة ومؤثرة، أو الاقرار بأن رأسه قد يكون مطلوباً في أي اتفاق أميركي – ايراني، موحياً لبيئته بأن ما أصابه وأصابهم ليس أمراً لا يمكن تعويضه أو تجاوزه.
وأكثر من ذلك، لا شيء يوحي بأن الدولة اللبنانية في وارد اتخاذ إجراءات سيادية ومستقلة في ما يتعلق بدورها التنفيذي، مصرة على التعامل مع موضوع السلاح كملف يخص أميركا وفرنسا والعرب، وعلى التعامل مع التحذيرات الخارجية بطمر الرؤوس في الرمال والاضطلاع بدور العاجز في مكان والخائف في مكان آخر والحريص في كل مكان.
ويقر مصدر ديبلوماسي أميركي بأن الرئيسين عون ونواف سلام لا يبدوان على استعداد للمضي بأي محاولة غير حوارية مع “حزب الله” في موضوع السلاح، على الرغم من علمهما بأن ما يجري يضع لبنان أمام تداعيين، الأول جر اسرائيل بدعم أميركي الى استكمال مهمة القضاء على ما تبقى من مقومات لبنان، والثاني ابقاء البلاد في حالة حصار مالي واقتصادي وعزلة عربية ودولية، مشيراً الى أن هذا التصرف هو أقرب الى الانتحار الطوعي منه الى القتل المباشر.
ويتساءل المصدر: كيف يمكن أن نقنع اسرائيل بالانسحاب من النقاط الخمس في وقت يحتفظ الحزب بسلاحه وعقيدته العدائية؟ وكيف يمكن أن نقنع نتنياهو بأن الجيش اللبناني لن يتعامل معه في الجنوب كما حدث بعد “حرب تموز”، أي الجيش الذي لعب دور “المتفرج” وربما المتعاون في وقت كان حسن نصر الله يحفر الأنفاق ويكدّس السلاح والصواريخ على مرأى الجنود اللبنانيين والدوليين معاً؟
ويرد مصدر في الدوائر الرسمية اللبنانية متسائلاً: كيف نقنع من جهتنا الحزب بأن تسليم سلاحه سيدفع اسرائيل الى الانسحاب حكماً في وقت لا تزال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا تحت الاحتلال والحدود البرية غير مرسومة والأجواء اللبنانية مزروعة بالمسيرات؟ وكيف يمكن أن نفعل ذلك ما دام يربط، في مكان آخر، مصير سلاحه بمصير ايران العالقة بين شرطين: اما الحرب واما تفكيك ترسانتها العسكرية؟
ويضيف: نحن لا نتعامل مع فريق مسلح محدود في المكان والزمان بل مع فريق ذي امتدادات اقليمية ذات رؤوس عدة حتى اذا قطع له رأس أطل رأس آخر من مكان آخر، مستشهداً بما تعانيه اسرائيل في غزة وما يعانيه الأميركيون في اليمن.
وسط هذا المشهد القاتم، يجمع المراقبون على أن الحكم في لبنان تأخر كثيراً في تلقف الفرص المتاحة، وبات أمام خيارين لا ثالث لهما، اما البقاء في حال مراوحة مع “حزب الله” وهذا ليس في مصلحته، واما تلزيم طرف ثالث مهمة تجريده من سلاحه وتدمير ترساناته وبناه التحتية كما يحدث بين الحين والآخر وهذا يدخل في هاجس “المؤامرة”، مؤكدين أن لا أحد في الغرب ولا في الشرق مستعد لتفهم موقف “لبنان – النعامة”، وأن لا أحد من الفريقين، وتحديداً الرئيس ترامب الذي بدأ يشعر بأنه في حاجة الى عمل كبير لاستعادة هيبته، مستعد للوقوف على خاطر المسؤولين اللبنانيين طويلاً، ونتنياهو الذي بدأ يشعر بأنه في حاجة الى قرار مستقل اما يدفعه الى حرب مع ايران من دون رضى الأميركيين اذا تلمس أي مقايضة على أمن كيانه، واما الى قرار مشترك يدفع الفريقين الى عمل عسكري حاسم يغيّر وجه الشرق الأوسط عن آخره.
“لقد فعلنا الكثير مما يسمح للسلطة اللبنانية باستعادة سيادتها وقرارها”، يقول مصدر أميركي، “فلم نجد الا فريقاً سياسياً ضائعاً بين ضغط دولي من جهة وخوف محلي من جهة أخرى”، معرباً عن خوفه من أن يأتي يوم يقرر فيه ترامب ونتنياهو التعامل مع لبنان باعتباره دولة اعتادت العيش تحت الاحتلال، وبات الاستقلال بالنسبة اليه لزوم ما لا يلزم.
ويختم: ان الخوف أمر مبرر في كل مكان، لكن عندما يصبح الخوف من حزب أكبر من الخوف على وطن، فلا داعي اذاً لوضع النار قرب البارود والطلب من الله أن يمنع الانفجار.