منذ سقوط نظام بشّار الأسد وصعود النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، تبنّت جماعة الإخوان المسلمين في سورية خطاباً سياسيّاً هادئاً ومتّزناً، يكاد يلامس البراغماتية. يظهر هذا بوضوح في بيانات الجماعة وتصريحات مراقبها العام عامر البوسلامة، التي تعكس رغبة واضحة في دعم الاستقرار السياسي، وتوجيه رسائل تطمينية إلى الداخل السوري والدول العربية. بل لم تتردّد الجماعة في الإشادة بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سورية، وتقديم الشكر للسعودية على ما وصفته بدورها الإيجابي في هذا التحوّل.
مع ذلك، لا تعكس هذه الرسائل العلنية حقيقة العلاقة المعقّدة بين الجماعة والنظام الجديد، فخلف الأبواب المغلقة، تسود حالة من التوجس المتبادل. حتى اللحظة، لم يُرخَّص حزب الوعد (الحزب الوطني للعدالة والدستور)، وهو الذراع السياسية للإخوان، رغم محاولاته المستمرّة للعمل في إطار القانون الجديد. وتفيد مصادر مطلعة بأن هذا الرفض غير المعلن يعكس موقفاً محسوباً من أحمد الشرع تجاه الجماعة، يتجاوز المسائل الإدارية أو القانونية إلى اعتباراتٍ أعمق تتعلق بالتحالفات الإقليمية وسياقات الصراع الأيديولوجي.
في البعد المحلي، تظل العلاقة بين الجهاديين والجهاديين السابقين (يطلق عليهم كاتب هذه السطور مصطلح ما بعد الجهاديين) و”الإخوان” مشوبة بالتوتر وسوء الفهم المتراكم. الشرع، الذي خرج من عباءة العمل الجهادي وتحوّل سياسيًا، لا يُخفي، حسب بعض المقربين منه، عدم ارتياحه للتجربة الإخوانية. ويرى فيها مشروعاً سياسيّاً طويل النفس، ينافس على الحكم عبر أدوات شعبية وديمقراطية، لا من خلال العنف، ما يجعلها أكثر تهديداً في نظر أنظمةٍ كثيرة.
أما البعد الأهم فهو الإقليمي، فعواصم عربية عديدة مؤثرة عبّرت عن تحفظات واضحة تجاه الجماعة، واعتبرت أن أي انفتاح عليها في سورية الجديدة سيكون بمثابة إحياء غير مباشر لمشروع الإسلام السياسي، وليس سرّاً أنّ دولاً عربية عديدة ربطت موقفها السلبي، بدايةً، من الشرع وهيئة تحرير الشام بالخشية من أنّ التغيير في سورية سيؤدّي إلى عودة الإسلاميين، وأنّه (بحسب ما قاله لي دبلوماسي عربي سابق) بمثابة “قبلة الحياة للإسلام السياسي”، فالشرع يدرك تماماً أنّ تحسين علاقاته بالدول العربية والتطبيع معها ودعم هذه الدول النظام الجديد مالياً ودبلوماسياً وسياسياً مرتبطان بصورة أساسية بموقف حازم رافض لعودة الإخوان المسلمين إلى المشهد السياسي من البوابة السورية، وبتجنّب أي علاقة مع نموذج الإسلام السياسي في العالم العربي. بل أكثر من ذلك، لم تتحسّن علاقة الحكومة السورية بدول عربية عديدة إلاّ بعد أن أخذت منها رسائل حاسمة من موضوع الإخوان المسلمين، وبوساطة وتأكيدات تركية على ذلك.
المفارقة الكبرى أن النظام الجديد، الذي خرج من عباءة هيئة تحرير الشام ويقودُه جهاديون سابقون، بات يحظى بقبول إقليمي ضمني، بينما يُقصى تيار أعلن مراراًُ قبوله بالديمقراطية والعمل السلمي. وتعكس هذه المفارقة قراءة عربية رسمية ترى أنّ الجماعات الجهادية تُعتبر تحدّياً ظرفيّاً يمكن احتواؤه أمنيّاً، في حين أن الإخوان المسلمين، بتنظيمهم العابر للحدود وأفكارهم السياسية، يمثلون تهديداً طويل الأمد.
يتعامل “الإخوان” بقدر عالٍ من الحذر السياسي. فهم يدركون طبيعة المرحلة، ولا يسعون إلى مواجهةٍ مبكّرةٍ مع النظام الجديد. لكنهم، في الوقت نفسه، يملكون من الخبرة والتنظيم ما يكفل لهم البقاء في الخلفية ريثما تتغير المعادلات. ومن المرجّح أن تعود الجماعة إلى الواجهة إذا ما فُتح المجال السياسي أو تغيّرت المعادلات الإقليمية.
في النهاية، تبقى العلاقة بين أحمد الشرع و”الإخوان” محكومة بتوازنٍ هشّ، أقرب إلى هدنةٍ تكتيكيةٍ من كونه توافقاً استراتيجيّاً. فهل سيطول عمر هذا التوازن، أم أننا على أبواب مواجهة مؤجلة يعاد فيها رسم مشهد الإسلام السياسي في سورية؟
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News