“السلامة أهم كثيراً من الطعام”. هذا ما تصرّ عليه “لبنى”، ابنة الخامسة والثلاثين التي فقدت في شهور حملها أكثر من 15 كيلوغراماً من وزنها، “فلا مواد غذائية، وأسعار الخضر نار، والفاكهة مفقودة”، مضيفةً لـ”النهار”: “فقدت 15 كيلوغراماً أخرى خلال فترة الإرضاع”. وإلى طفلتها الرضيعة، تعتمد وزوجها وثلاثة أطفال على وجبات تقدمها تكيّة قريبة من منزلهم في مدينة غزة.
إن كانت إسرائيل لم توفر سلاحاً لم تستخدمه في حرب مستمرة منذ نحو 20 شهراً، فلمَ لا تستخدم سلاح التجويع؟ فقد استهدف طيرانها الحربي البنية التحتية الغذائية في قطاع غزة، كالمخابز ومطاحن الدقيق، ودمّر الأراضي الزراعية بشكل ممنهج، ما جعل أكثر من مليوني فلسطيني مهددين بمجاعة بدأت مظاهرها جليةً بعد إغلاق المعابر مع القطاع وتشديد الحصار الإسرائيلي. فقد انعدم وجود الكثير من المواد الغذائية، ولاسيما منها المعلبات التي اعتمد عليها أهالي القطاع في غذائهم منذ بدء العدوان، ودقيق القمح والرز الذي خلت منه الأسواق، فاتجه الفلسطينيون إلى طحن حبوب الذرة والشعير المخصصة لصناعة أعلاف الحيوانات، ليصنعوا منها دقيقاً لعجين الخبز.
حل موقت
تقدم “التكايا” وجبات طعام صغيرة يومياً تسد رمق الناس، فازدادت أهميتها وتوسع انتشارها وتحولت إلى مصدر إلهام لإقامة نقاط محددة لتوزيع الطعام على الفقراء.
والتكية مشتقة من “اتكأ” بمعنى “استند”، وهي موجودة بمفهومها العامّ منذ السلاجقة والأيوبيين والمماليك. كان يطلق عليها اسم “الخانقاوات”، لكنها ازدهرت تاريخياً وتوسعت بشكل كبير في زمن السلطنة العثمانية التي دعمتها بقوة، فصارت مراكز مبيت للمتصوفين والدراويش وملجأ للفقراء والمحتاجين وملاذاً للمسافرين والمقطوعين، تقدم الطعام والشراب الى المحتاجين.
قامت في أحياء القطاع ومخيماته، وهو الذي يعدّ من المناطق الأشد فقراً في العالم، عشرات من هذه التكايا بمبادرات شخصية وعائلية ومؤسساتية وشبابية. فكرتها بسيطة: جمع التبرعات من الميسورين والمطاعم والشركات والهيئات المحلية والإغاثية الدولية داعمة، لإعداد الطعام يومياً وتوزيعه على الأسر الفقيرة، وتعدّ بعشرات الآلاف.
لم تسلم هذه التكايا من وحشية القصف وضراوة الاستهداف، حتى تحولت فعلياً إلى ما يشبه الفخ، تستهدفها القذائف الإسرائيلية: تقول “لبنى” إن أطفالها يذهبون يومياً إلى التكية لإحضار العدس والفاصوليا والرز والمعكرونة، “وهو يكاد ألا يسدّ جوعنا، لكن ما همني الطعام، إن فقدناه اليوم نلقاه غداً، لكن إن فقدت إبني أو زوجي أو أخي فلن نلقاه أبداً”. ناهيك بمعاناة الحصول على دور في طابور طويل، والوصول إلى الطعام قبل نفاده، والاضطرار حينها إلى ىشراء الطعام من الأسواق بأسعار مرتفعة، “وهذا الأمر إنعكس على كمية الطعام التي أحصل عليها، فما كان يكفي طفلاً أقسّمه اليوم على ثلاثة أطفال، أما زوجي وأنا، فنقتات وجبة وحيدة يومياً”.
ويبدو أن إسرائيل تتعمد اليوم استهداف مراكز تسليم المساعدات التي أقيمت – بحسب الإدعاءات – في مناطق آمنة. فحتى كتابة هذا التقرير، تسبب القصف الإسرائيلي بمقتل أكثر من 250 فلسطينياً في منطقة أقل ما يقال فيها إنها تتطلب إغاثة إنسانية دقيقة. تقول “لبنى”: “ترى الناس يجرون وراء الموت ليحصلوا على طعام الحياة”.
بعد قصف التكية، تختلط على مداخلها وفي الطريق إليها أكياس الطحين بدماء الشهداء ورمل الأرض، وتتناثر الأجساد في كل مكان، ولكل جسد اسم وبصمة وقصة إنسانية.
جوع حاد
يعيش “إبراهيم” (26 عاماً) في شرق غزة مع عائلة من ستة أفراد. يقول لـ”النهار”: “العدس نصيرنا في هذه المحنة، نطحنه، ونحول دقيقه خبزاً، فنأكله، رغم أن طعمه سيء جداً. لكننا بمرور الوقت، نقلنا تركيزنا إلى دقيق المعكرونة، فالعدس يسبب آلاماً شديدة في القولون، ولا نعود إليه إلا عند الحاجة الماسة. ويضيف: “تجاوز سعر كيس الطحين 500 دولار، وصرنا نشتري نصف كيلوغرام أو كيلوغرام في أبعد تقدير”.
حذرت منظمات دولية مثل أوكسفام وأوتشا والغذاء العالمية والأونروا من أن الكتلة السكانية في القطاع التي تواجه خطر المجاعة هناك هي الأكبر في العالم حالياً، فموظفوها يشهدون يومياً أسراً تعاني جوعاً حاداً، وأطفالاً مصابون بسوء تغذية فظيع إلى درجة أنهم باتوا عاجزين عن البكاء، في مشهد يعكس كارثة إنسانية غير مسبوقة، مع استخدم إسرائيل المساعدات الإنسانية سلاحاً مسلطاً على رقاب الفلسطينيين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، ما يهدد بدفع الوضع الإنساني في غزة نحو الانهيار التام. فتحويل المساعدات إلى أداة للسيطرة يشكل خطراً مباشراً على المدنيين، ويزيد من تفاقم الفوضى والمعاناة في القطاع، والصمت الدولي عن التجويع في غزة يعد تواطؤاً لا يمكن تبريره، فالعالم مطالب بالتحرك لإنهاء الحصار وضمان تدفق المساعدات من دون قيود، خصوصاً أن 70% من سكان القطاع يعيشون في مناطق تنتشر فيها القوات الإسرائيلية أو يخضعون لأوامر بالتهجير أو كليهما.
والأسوأ من ذلك كله هو ما يقوم به بعض العشائر بميليشياتها المسلحة، إذ تستولي على المواد الغذائية بالقوة، وتقتحم المستودعات وتنهبها، وتطلق النار لحماية أفرادها من عناصر الأمن. فهذه العشائر بنت قوتها قبل الحرب بوقت طويل، معتمدة على تهريب السلاح والمخدرات والسجائر والأجهزة الإلكترونية من مصر إلى إسرائيل.