مسارٌ طويل من المراجعات النقديّة، بالتزامنِ مع تآكلٍ تدريجيّ للإيمانِ بالأُطُرِ والنماذج القديمة، مهّدَ الطريقَ أمام زلزالٍ وجوديٍّ هزَّ البنية الفكرية والتنظيمية لحزب العمال الكردستاني. أفضى ذلك، في نهاية المطافِ، إلى حلّ الحزب لنفسه، بعد أن استنفدت بنيته القديمة شروطَ بقائها. لقد بلغ التنظيمُ، بتعبير زعيمه التاريخيّ عبد الله أوجلان، مرحلةَ العبءِ التاريخيِّ، حتى بات استمرارهُ محكوماً بالتكرارِ وباجترارٍ عبثيٍّ لمسارٍ مسدودٍ. واعتبرَ الحزبُ في بيانِه الأخيرِ أنّه «أنجزَ مهمّته التاريخيّة»، وجعلَ حلّ القضيةِ الكُرديّةِ ممكناً عبر «السياسة الديمقراطيّة».
جاءَ الإعلان صاعقاً بالنسبة لكثيرين. فتطوّرٌ بهذا الحجم لا يُستوعَب بسهولة، لا من أنصار الحزب ولا من خصومه. بدا كأنه خروجٌ مفاجئ من التاريخ، أو على الأقل من السرديّة التي برّرت وجود الحزب لعقود. لذلك، لم يكن من المُستغرَبِ أن يسود ارتباك وعدمُ فهمٍ في معسكرِ الحزبِ كما في معسكر خصومِه. بعض مؤيديه سارعوا إلى وصف ما جرى بـ «مناورة تكتيكية»، وكأنهم يحاولون حماية أنفسهم من وقع الحقيقة. آخرون، أَفقرُ خيالاً، لجأوا إلى استعارة تعبير «استراحة محارب»، في محاولة لإنكارِ التحوّل المهول. أمّا على الجهة المقابلة، فلم تتأخر الأصوات المناهضة للحزب في التشكيكِ وبثّ رواياتٍ مؤامراتيّة؛ راحت بعضها تُعيد على مسامع الجميع نغمتها القديمة: «اتفاق مسبق» مع الدولة التركية العميقة. وعلى حافّة الهيستيريا، ذهبت بعض المُخيّلات العنصرية إلى اعتبار ما حدث مؤامرة دوليّة لتأسيس كيان كُرديّ مزعوم على أنقاض شعوب أخرى في المنطقة…
بهذا المعنى، لم يكن حلُّ الحزب انهياراً، بقدر ما هو إعادةُ تعريفٍ جذريّةٍ للذات وعلاقتها بالآخر؛ إنّه أشبه بهزِّ الجسدِ بقوّةٍ لينفضَ عن نفسِه غباراً متراكماً كاد أن يخنقه. لكنّه حدثٌ مهولٌ، لا يقتصرُ أثره على الحزب بذاته، بل يمسُّ بنية الحركة القوميّة الكُرديّة برمّتها. فهذا التنظيمُ يجسّدُ في الواقعِ واحداً من أهمّ ركائزِ الوعيِّ القوميِّ الكُرديِّ، ولطالما ارتبطَ وجوده في الذاكرةِ الكُرديّةِ باستذكارِ أحلامٍ وتطلّعاتٍ قوميّةٍ جذريّةٍ. وحلُّه لنفسِه، وتخلّيه الكاملِ عن الكفاح المسلّحِ، قائمٌ في الأساسِ على نقل بوصلته من صوبِ الدولة القوميّة الكُرديّة، بما تعنيه من حدود وخرائط، نحو «الأمّة الديمقراطيّة»، أي نقل الغايةِ النهائيّةِ مِن أرضِ الكُردِ (كُردستان) المُستقلّةِ إلى فضاءٍ هويّاتيٍّ أكثر رحابةً وليونةً، من خريطةٍ حدوديّةٍ مغلقة صوبَ صيغةٍ تعدّديةٍ ثوريّةٍ، تَشارُكيّةٍ، مفتوحة الأبواب.
بهذه الطريقة غيّرَ عبد الله أوجلان (ورفاقه) مساره النضاليّ. كما لو أنّ سيزيف قد قرّرَ أخيراً أن يُلقي بصخرته جانباً، رافضاً تكرار الصعود الأبديّ الذي لا يُفضي إلى شيء. فالصراعات القوميّة في تاريخ المنطقة الحديث تُشبه حلقة مغلقة من التكرار القهريّ، حيث تتوالى المعاناة بلا انقطاع، ويتكرّس العجز كقَدَر. حاول أوجلان، في قلب هذا السياق، كسرَ الحلقة والخروجَ منها نحو مسارٍ آخر، أقلّ فتكاً، وأشدّ جرأةً.
من المعلومِ أن الزلازل لا تحدث فجأةً، على الرغمِ من أثرِها الظاهريّ المُباغِتِ؛ فهي نتيجةُ تحرّك مستمرّ وانزياحات تتواصل في العمق، حتى تأتي لحظةٌ تتصادمُ فيها البنى بعنفٍ وتتبدّل مَواضِعُها. على هذا النحو، تقريباً، وقع زلزال حزب العمال الكردستاني. فمنذ أوائل التسعينيّات، وبشكلٍ أوضح منذ اعتقال أوجلان، راحت النزعةُ نحو المسارِ السلميّ، اللادولتيّ، غير القوميِّ، تتجلّى في خطاب الحزب ولغته، وبشكلٍ أساسيٍّ في مرافعات أوجلان في السجن. استغرق الأمر وقتاً بطبيعة الحال. فليس من السهل أن يتحوّل حزبٌ تشكّلَ على أساسِ التحرّر والتوحيد القوميّ، وتأصّلَ حضوره عبر الكفاح المسلّح، إلى قوّة ترفضُ الحلول القوميَّة وتنبذُ السلاح. المهمّة لم تكن صعبةً على الصعيدِ التنظيمي فقط، بل، وبدرجةٍ كبيرةٍ، على الصعيدِ السايكولوجيّ-الجماهيريّ: أن تقنع تنظيماً ضخماً ومعقّداً في تركيبته الداخليّة والجماهيريّة بأن ما كان يبدو «جوهر الوجود» قد استُنفد، وأن زمناً آخر قد حلّ.
وعلى امتداد هذا المسار، راحت اللغة الثوريّة الأسيرة لفكرة تحرير الجغرافيا الكُرديّة تتراجع أمام خطابٍ جديد يَنهضُ على فكرة تحرير المجتمع ذاته. ومع تَرسُّخ هذا التحوّل البنيوي، أخذ مشروع الحزب يُفارِق تدريجياً النزعة الكيانويّة التي وسمت الحركات القوميّة الكلاسيكيّة، متّجهاً نحو إعادة إنتاج السياسة انطلاقاً من قاعدة المجتمع. ومن داخل هذا السياق، بدأ التخلّي المتدرّج عن مركزية الدولة القوميّة، بوصفها تمثيلاً متأخّراً لوهم التحرّر الشامل، حين يُختزَل هذا الأخير في بناء كيانٍ سياسيّ ذي حدود وسيادة. وقد جرى، تبعاً لذلك، تفكيك التصوّر القوميّ للدولة كأقصى أفقٍ ممكنٍ للتحرّر، وكإطارٍ حتميّ لتحقيق العدالة السياسيّة، وهو تصوّرٌ كرّسته الحداثة الأوروبية بوصفه نموذجاً كونيّاً، دون أن تُبصر ما ينطوي عليه من حدودٍ بنيويّة في السياقات التاريخيّة المستعمَرة أو في المجتمعات المتداخلة والهشّة.
لم تتبلور الرؤية الجديدة للحزب دفعةً واحدةً؛ بدا الأمرُ أقرب لانسحابٍ بطيءٍ في البداية، ومتسارعٍ منذ نحو عقد، من خطابٍ قديمٍ لم يعد يكفي العالم بعد الألفيّة الجديدة مع تزايُدِ دوائر الاحتكاك والتواصل بين الناس. القاموسُ المُعتمَدُ في السابقِ، المُفرِطُ في «قوميّته»، الطائفُ فوقَ مصطلحاتِ التحريرِ والتوحيدِ القوميَّين، بدا، مع الوقت، عاجزاً عن تقديم إجاباتٍ شافيّةٍ على أسئلة «العصرِ». وهذا ما يبدو أن أوجلان السجين أدركه وسعى لمعالجته في كتاباته الأولى داخل السجن؛ فهي بمثابة إعادة نظرٍ في كل ما افتُرِضَ جوهريّاً: فكرة الخلاصِ على أساسٍ قوميٍّ، تصوّر الدولة، تعريف العدو، وحتى معنى الكفاح نفسه.
شيئاً فشيئاً، برزت الحاجة إلى تصوّر يقومُ على ترتيب العلاقة بين الناس حيث هم؛ دون الحاجةِ إلى تقويضِ البُنى الدولتيّة القائمة وتأسيسِ بُنى خاصّةٍ بالجماعاتِ المختلفة. بذلك وجد أوجلانُ نفسَه أقربَ لديمقراطيٍّ شرق أوسطيٍّ منه لقوميٍّ كُرديٍّ؛ ابناً لأمّةٍ متعدّدةِ الهويّاتِ، سمّاها، في ما بعد «الأمة الديمقراطية».
التأسيسُ النّظريُّ
في مانيفستو الحضارة الديمقراطية شرعَ أوجلان بتفكيكِ الرأسماليّة الحديثةِ، باعتبارها بنية هيمنة شاملة ارتكزت على الدولة القوميّة أداةً لاحتكار للسلطة والثروة والثقافة؛ بذلك وضع أوجلان الدولةَ القوميّة هدفاً لسهامِ نقدٍ جذريٍّ، وبات يرى أن حلّ المسألة الكُرديّة لا يمكن أن يتمّ من داخل منطق الدولة، بل من خلال تجاوزه بالكامل.
وفي كتاب له عن السلطة والدولة، يعودُ أوجلان إلى الجذر الأبعد للسلطة، محلّلاً كيف تحجّرت الحياة السياسية في بنى فوقيّة قهرية منذ نشأة الدولة الأولى، وكيف تحوّلت المجتمعات من التنظيم الذاتي إلى الخضوع المؤسسي. هنا يتّضح مسار تحوّله من قائد ثوري يسعى لتأسيس دولة إلى مفكر يدعو لتفكيكها. ويرى أنّ احتلال الدولة لا يحرّر الشعوب، بقدر ما يكرّس قهراً جديداً بقناعٍ زائفٍ، وأن السبيل يكمن في تمكين المجتمع من إدارة ذاته عبر مجالس قاعدية، ديمقراطية.
أما في كتابه القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، فيبلور أوجلان النموذج البديل: أمّة بلا دولة، تقوم على التعايش الطوعي والتعددي، وترتبط ببنية كونفدرالية من المجتمعات المحلية المنظمة ذاتيّاً. في هذا المشروع، الذي لا تنقصهُ المثاليّةُ بقدرِ ما لا تنقصه الواقعيّة، يعيد أوجلان تعريف السياسة بوصفها نشاطاً جماهيرياً تشاركيّاً وأخلاقياً، وليس سلطة مفروضة من فوق. يمكنُ تلخيصَ فكر أوجلان السجين، على أنّه تفكيكٌ راديكاليٌّ لمفاهيم الدولة والسيادة والهويّة القومية، لصالح نموذج تَحتيٍّ ديمقراطي بيئي – اجتماعي. هكذا تحوّلَ التحرُّر من هدف قوميّ إلى أفق كونيّ للعدالة والعيش المشترك.
ومع نموِّ هذا المزاج الجديد، بدأت تظهر مقاربة تلتفت إلى تفاعل المجتمعات على أرضِ الواقع، بدل النّظرِ إلى النماذج المعياريّة. على هذا النحو، وجدت هذه الرؤية تجسيداً – لا تنقصه الشوائب – في شمال سوريا، مع تجربة «الإدارة الذاتيّة»: مجالس محلّية بسلطات لا بأس بها، تنسيق وتواصل أهليّ معقول، حضور نسائيّ متقدّم، واعترافٌ مبدئي بدور العناصر البيئية في تشكيل الحياة العامة. مشروعٌ واعد، قابلٌ للحياةِ على الصعيدِ النّظري؛ بيد أنّه، على الأرضِ، لا يزال مشوباً بعلاقاتٍ فاسدةٍ، غير ديمقراطيّةٍ، تبلغ أحياناً مصاف الإجرامِ. لكنّه، في الوقتِ عينه، المشروعَ الديمقراطيّ – شبه الوحيد على الأرضِ – على امتدادِ خرائطِ بلادِنا. لكنّه مشروعٌ، وليس واقعاً ناجزاً؛ ولأجلِ ذلكَ لا بدّ من تجاوزِ عوائقَ ودفعِ أثمانٍ تبدو حتميّة على هذه الدرب الوعرة.
الأثمانُ الواجبُ دفعها
لما يقرب من أربعة عقود، أسّس حزب العمال قاعدةً شعبيّةً واسعةً بأرضيّةٍ نفسيّة وفكريّة لا تكاد تهزّها أعتى الرياح. لذلك، ليس مُستغرباً أن يكون هذا التحوُّل القائمُ مؤلماً، مثقلًا بالتردّد والعثرات، وعدم التّصديق أيضاً. فليس من اليُسرِ في شيءٍ سلوكُ الدربِ الخارجةِ من المساحةِ المألوفةِ للحُلمِ القوميِّ إلى الفضاء الرحبِ لديمقراطيّة الشعوب. بالنسبة لمن لم يعِش أو يدرك التحوّلات الجوهريّة والتبدّلات الفكرية العميقة داخل الحزب على مدار العقدين الفائتين، فإن الأمر يتطلّب قطيعةً حادّةً مع الموروث العاطفي والعقلي، قطيعةً لا تقلّ جذريةً عن الثورة على الذات. فـ«الذهنيّة القوميّة»، التي تفترضُ أنّ التاريخ يسير في خطّ مستقيم نحو «الدولة»، تجدُ نفسها الآن مدعوةً إلى الشكّ في عقيدتها، إلى الانفتاح وقبول «الآخر التاريخيّ»، بوصفه شريكاً في العيش والمصير.
وهنا، عند هذا المنعطف بالذات، يبدأ الثمنُ الحقيقيُّ الذي لا فَكاك منه؛ الهزّةُ النفسيّةُ العميقةُ التي تقعُ حين يُطلَبُ من جماعةٍ أن تُعيدَ صوغ علاقتِها مع الذاتِ والآخرِ، وأن تُوجِّهَ بوصلة انتمائها على ضوءِ وعي مغايرٍ تماماً. زَلزلةٌ كهذه لا تحتملها إلا قلّة من التنظيمات الآيديولوجيّة، إذ تستلزمُ قطيعةً جارحةً مع المألوف، وتخليّاً عن جدارٍ فكريٍّ طالما شكّل سنداً وجوديّاً. ومع ذلك، أقدمَ حزب العمالِ الكُردستانيّ على هذه الخطوةِ، مُجازِفاً بخلخلة يقينيّاته، فاتحاً لنفسه باباً نحو مجهولٍ سياسيّ وتاريخيّ في آنٍ؛ ويبدو، على خلافِ ما توقعه كثيرون، أنّه طوّر قابليةً ملموسةً لتحمّل هذا النمطِ من التحوّلات.
وكان على الحزب، فوق ذلك، أن يواجه نرجسيّةً سياسيّةً كان قد ساهم في ترسيخها على امتداد سنوات؛ عبر تمسّكه بصورته عن ذاته، وبالرواية التي صاغها لتاريخه باعتباره صاحب الخطّ الصحيح والموقع الخلاصيّ في الحاضر الكُردي. هذه البنية النفسية جعلت من ممارسة النقد الذاتي عبئاً ثقيلاً، ومن مراجعة الخيارات الخاطئة مهمّةً مؤجّلة، موضوعة جانباً خشية أن تهزّ ما ظُنَّ يوماً أنّه ثابت. لذلك، لم يكن التحوّل الجاري ممكناً لولا بروز قدرٍ من التواضع في قمّة الهرم الحزبي، يتيح التخلّي التدريجيّ عن ادّعاء الصوابيّة المطلقة، ويفتح الباب لإعادة التفكير في ما بدا عصيّاً على المراجعة. ولعلّ المنعطف الحاسم في هذا كلّه كان تصدّع فكرة «تحرير وتوحيد كردستان» بوصفها الغايةَ النهائيةَ والمقدَّسة. هذا التصدّع هو ما أفسح المجال للتفكير في مسارٍ آخر، لا ينطلق من تلك المعادلة الاطلاقيّة، إنما يستمدّ مشروعيّته من أفقٍ أكثر تواضعاً، وأقلّ احتكاراً للحقيقة.
ومن بين الأثمان النفسيّة العميقة، التي تم دفعُها، تَفكُّكُ الصورة الراسخة التي ترسّبت خلال سنوات التنظيم السرّي والعمل المسلّح: صورة المقاتل، نبرةُ الصّوت، التعاملُ الحذر المتحفّظ، والتي باتت مع الوقت عبئاً على مسارِ التحوّل الذي لم تكتمل أركانه بعد. غير أن جذور هذه البنية بدأت تتحرّك وتنزاح، وتكرّس ذلك، شيئاً فشيئاً، في سياقات العمل المدني والسياسي داخل البرلمان التركيّ، ومجالس البلديات، والمهام البيروقراطيّة التي تحتاج إلى الإنصات والتفاهم أكثر من إصدار الأوامر. صورة البطل كمقاتلٍ مسلّح فقدت جزءاً من مكانتها، وراح يلوحُ شكلٌ آخر للبطل، يعيش في المدن، يرتدي أزياء مدنيّة، ويجيد العمل مع الآخرين وسط التباين والاختلاف.
ليس من السهل زحزحة نمط التفكير الذي تراكم عبر عقودٍ من العمل المسلّح، حيث يُرى العالم بمنظار الثنائيات القاطعة: إمّا صديق أو عدو، إمّا ثورة أو خيانة. في مثل هذه البنية المتصلّبة، تُعدّ المرونة ضعفاً يُقارب الإهانة، ولا تُفهَم التسويات كحتميّة سياسية، إنما بوصفها تنازلاً مبدئيّاً. حتى أوجلان نفسه لم يغادر هذا الإطار دفعةً واحدة، بل بدأ بشقوق صغيرةٍ فيه، راح يوسّعها تدريجياً. شكّك في يقينيّاته، وبحث عن لغةٍ تتجاوز تأطير الصراع ضمن نماذج تبسيطيّة جاهزة، تاركاً المجال مفتوحاً أمام احتمالات الواقع، والسياسة، والتعايش.
أدرك أوجلان أن التحوُّلَ نحو «الأمّة الديمقراطيّة» يستدعي إعادة نظر في هذه البنية المانوية، لعجزها عن التقاط تركيبة الصراعات التاريخيّة، وإنتاجها لخصوم دائمين، بدل أن تتيح إمكانيات التحوّل والتقاطع. لولا هذا الإدراك لبقي الحزبُ، ومعه طيفٌ واسعٌ من الحركة الكُرديّة، أسيرَ ما وصفه فرويد بالتكرار القهري: أن نستعيد أنفسنا في مشهد لم نعد نمتلك مفاتيحه، ونعيشَ في إيقاعٍ لا نصنعه.
وكان لا بدّ أيضاً من زعزعة تلك البنية الذهنيّة التي ربطت الخلاص دوماً بما سيأتي من الخارج، أو بما يُرجى أن يأتي، حتى حين يطول الانتظار بلا أفق. كثير من حركات التحرّر انزلقت إلى وهمٍ مزمن: أن الزمن سينصفها، أو أن قوّة دوليّة أو ميتافيزيقيّة ما ستتدخّل في اللحظة الحاسمة لإنقاذها. هذه الرؤية الرجائيّة، المستندة إلى وهم عدالة التاريخ، أشبه بمصنعٍ رهيبٍ للاتكاليّة والعطالة، رغم نشاطها الظاهري؛ فهي تُنتج وعياً حُلميّاً مشدوداً إلى الخارج، أكثر مما هو مهيّأ للمبادرة من الداخل. كان حزب العمال قد أوشك على العطالة التامة، لولا مساره الأخير الذي تُوِّجَ بخطوته الحاسمة؛ إذ وضع بذلك، بنفسه، نقطة النهاية. لم ينتظر أن يُنهيه الخارج، رغم أنّ الظروف كانت لا تزال تتيح له البقاء زمناً أطول ضمن الصيغة ذاتها، وباب الرجاء كان لا يزال موارباً، لا سيما في العقد الأخير. باختصار، كان من الممكن الإبقاء على النموذج القديم لبعض الوقت، لكنّ القيادة – وهذا ما هو جوهري واستثنائي في آن – قرّرت كيف وبأيّ شكل ينبغي أن ينتهي. فقرار حلّ الحزب والتخلّي عن السلاح لم يكن تنازلاً، ولا نصراً يُهدى للخصم. بل، بهذا الفعل، خرج الحزب من المصيدة التي كادت تُطبِق عليه: أن تكون نهايته حتميّة، لكن من دون مقابل. ما جرى، باختصار، أنّ الحزب أنقذ نفسه من الهزيمة، ومن الخروج من التاريخ خالي الوفاض.
دورُ «الآخرِ التاريخيّ»
لكن، وإن كان حزب العمال الكردستاني قد اختار الخروج من قمقم الحلم القوميّ التقليدي، فإن نجاح رهانه الجديد لا يتوقّف عليه وحده، بل يرتبط، في جانبٍ حاسم، بمدى استجابة محيطه له. فمشروع «المجتمع الديمقراطي»، بما فيه من طموحٍ عابرٍ للحدود والهويّات الأحاديّة، لا يمكن أن يترسّخَ ما دامت البيئات المجاورة أسيرة المنظور القوميّ الصلب. ذلك أن أي تحوّل لا يكتمل من طرفٍ واحد، ولا ينجو من سوء الفهم ما لم يجد صداه في وعي الآخرين. يتطلّب هذا المسار تفاعلات مسؤولة من القوميين الآخرين – عرباً وأتراكاً وفرساً … – تُتيح تخفيفاً متبادلاً من حدّة الموروثات، ومُراجعةً لأطرٍ ذهنيّة لم تعد تصلح لزمنٍ يتغيّر بلا هوادة. فإذا ظلّ المزاج السياسي في المنطقة محكوماً بمعادلة الدولة القوميّة الصِفريّة، حيث ربحُ قوميةٍ يعني بالضرورة خسارة أخرى، فإن قطار السلام قد لا يكتفي بالتأخُّر المرير؛ ربّما لن يصل أبداً.
ليس المطلوب التصديق أو الانبهار بكلِّ ما يقوله أوجلان؛ فهو، في نهاية المطاف، يقدّم رؤيةً معقّدةً غير مألوفة، يعارضها كثير من القوميين الكُرد قبل غيرهم. لكن المطلوب، على الأقلّ من المؤمنين بالديمقراطية التشاركية أن يُصغوا للرجل، ويقتربوا من طرحه، بدل أن يظلّوا أسرى لصورته النمطيّة أو لذلك النفور الراسخ في مخيّلتهم. إنّها مسؤوليّة فكريّة وأخلاقيّة مشتركة، تتطلّب الانفتاح على إمكانِ الجديدِ خارج سجونِ الأنا القوميّةِ أو الدينيّةِ أو الآيديولوجيّة.
وبروح ما قاله كامو في الإنسان المتمرّد، فإن الثائر الحقيقي هو من يقول «لا» للظلم، لكنه في الوقت نفسه يقول «نعم» للحياة. وأوجلان بمسارِه الجديد قال «لا» للعنف والتعصُّب القوميِّ، وفي الوقت عينه «نعم» للديمقراطيّة والتعدديّة.
إننا، بحلِّ حزبِ العمّال الكُردستانيّ لنفسه، وقبل ذلك بتحوّلِه من القومويّة الكيانيّة الصلبة إلى الديمقراطيّة التعدّدية، إزاء صفحة جديدة من تاريخ منطقتِنا؛ إذ ندخلُ تجربةً سياسيّةً واجتماعيّةً، تتشكَّلُ يوماً بعد يومٍ، لكنّها لن تُنجَزَ بأفضلِ صُوَرِها الممكنة، إن لم تُمنَح مجالاً كافيّاً وتُقدَّرُ كإحدى الدروسِ المُستفادة في تاريخ حركات التحرُّر المعاصرة؛ تجربةٌ قد تُسهِمُ في إعادة النظر في معاني الهوية والحرية والوطن، بحثاً عن ملحمةٍ جديدةٍ يمكن لجميع أبناء المنطقة أن يكتبوا فصولها القادمة معاً.
هكذا، تيّارٌ مركزيٌّ ضمن الحركة السياسيّة الكُرديّة، يهزمُ نفسَه القديمةَ، ينزعُ السّلاح ويكسرُ العزلةَ، ويتقدَّمُ صوب الآخرِ كما لم يفعل أحد.
وبلسانِ طائر الباز، الشاعرِ الكُرديِّ الذي نفاهُ الفقرُ من سهوبِ ماردين إلى صقيعِ إسكي شهير، وحرّمتهُ الفاشيّةُ من عملٍ كريمٍ في أرضه، دون أن تخطف من عينيه زرقةَ الجبالِ ولهفةَ المشتاقين:
إنّه زمانُنا الجديد؛
سنجفّفُ عرقَ جباهِنا كما تُجفِّفُ الأساطيرُ دمَ من ساروا وحدَهم في العتمة؛
سنضعُ أعضاءَنا المبتورةَ في صناديقَ نحملُها إلى أهلِنا؛ ونغنّي:
ها قد عُدنا يا كُردستان، بلا بنادق ولا جثث على الظهورِ؛
ها قد عُدنا يا تركيا، بوجوهٍ مكشوفةٍ وكلمات لا تخشى النّور؛
ها قد عُدنا أيّها الشرقُ، بلا أحقاد ولا مراثي،
فاتحين أذرعَنا كالأطفالِ حين يُنقِذهم آباؤهم من الغرق،
كالآباءِ حين يُنقِذون أبناءَهم من الغرق.
هاكم قلوبَنا، أيُّها الأعداءُ القُدامى، الأحبابُ الدائمون؛
فقد دخلنا التاريخَ من الكهوفِ والجبال،
ولن نخرجَ منه نازفين إلى القبور،
بل آيبين إلى بيوتِنا… بيوتِكم.
إنّها لحظتُنا، أيّها الرفاق؛
هاتوا أيديكم، اقتربوا!
مقالات مشابهة