دائماً ما تذكّر السفن التي تنطلق في محاولة لكسر الحصار المفروض على غزة، بـ«أسطول الحرية» الذي أبحر إلى القطاع يوم الـ29 من أيار عام 2010، وتعرَّض فجر الـ31 منه، لهجوم إسرائيلي في عرض البحر، أسفر عن مقتل تسعة ناشطين، جميعهم من الأتراك. ومع أن الأسطول، والأتراك الذين كانوا على متنه، أبحروا في حينه رغم اعتراض الحكومة التركية برئاسة رجب طيب إردوغان، ولكن الحادثة اضطرّت أنقرة إلى الدفاع عن ضحاياها، ومن ذلك إطلاق اسم «حادثة سفينة مافي مرمرة» عليها، والتي كان لها أن تُحدِث شرخاً كبيراً بين الجانبين، نتج منه تخفيض في مستوى العلاقات الديبلوماسية بينهما، إلى أن أعيدت بالكامل في صيف عام 2022.
وعلى امتداد مرحلة «طوفان الأقصى»، حافظت تركيا على علاقاتها الديبلوماسية مع إسرائيل، ولم تبادر حتى إلى تخفيضها. كما إن التجارة بينهما ظلّت قائمة على قدم وساق، فيما جُلّ ما فعله إردوغان، هو إعلان التضامن مع غزة، من دون اتّخاذ خطوات عملية جدّية لمحاولة وقف العدوان. ويذكر، في هذا المجال، أن الرئيس التركي هدّد، مع بداية صيف 2024 – ولمرّة واحدة فقط -، بدخول إسرائيل عسكريّاً، كما دخل من قَبلها إلى قره باغ وليبيا.
ومع استيلاء إسرائيل على السفينة «مادلين»، واحتجاز الناشطين على متنها، وسجن بعضهم، بدت المناسبة سانحة لتُجدِّد السلطة في تركيا خطابها عالي السقف بخصوص القضية الفلسطينية؛ إذ أصدرت الخارجية بياناً جاء فيه أن الحادثة «أثبتت مرّة أخرى أن إسرائيل دولة إرهابية». لكن الجديد هو أن السفارة التركية في تل أبيب تحرّكت من أجل إطلاق سراح المواطنَين التركيَّين من بين الذين كانوا على متن السفينة، وهما الناشط حسين شعيب أوردو، والناشطة ياسمين أجار التي تحمل أيضاً الجنسية الألمانية.
ولم يتأخّر الناطق باسم «حزب العدالة والتنمية»، عمر تشليك، بدوره، في دعوة العالم إلى أن «يلعن إسرائيل، ويتّخذ الإجراءات الملموسة»، في حين سارع كتّاب الحزب إلى التذكير بموقف تركيا «المعادي» لإسرائيل، حتى أن صحيفة «يني شفق» الموالية، كتبت في عنوانها الرئيسي: «لِنَسِر إلى غزة ونوقف الإبادة»، داعيةً إلى عدم السماح لأيّ سفينة تنطلق من الموانئ التركية بالذهاب إلى موانئ إسرائيل، ووقف حتى إمدادات الطاقة إلى هذه الأخيرة عبر تركيا.
يتّسم الموقف التركي من حادثة السفينة «مادلين» بـ«النفاق والازدواجية»
وفي هذا الوقت، كان النائب عمر فاروق غيرغيرلي عن حزب «المساواة والديموقراطية للشعوب» الكردي، يصف الموقف التركي من حادثة «مادلين» بأنه «منافق» و«يتّسم بالازدواجية»؛ إذ لفت إلى أن التجارة بين الجانبين مستمرة، وأن البيانات التي تصدرها وزارة التجارة غير صحيحة، وتهدف فقط إلى إثارة الضجيج.
كما أعلن رئيس «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، أنه سيقوم بزيارة إلى غزة بعد انتهاء عيد الأضحى، للتضامن. لكن التحرّك التركي الأبرز، كان لمجموعات مناهضة لإسرائيل ولـ«حزب العدالة والتنمية»، طالبت بدعم عملي لأهل غزة ضدّ الإبادة التي يتعرّضون لها. ورفع المتظاهرون في ميدان تقسيم، شعاراً رئيسياً هو «الحرية لمادلين، الحصار على فيلا»، و«الحصار الكامل على إسرائيل»، و«من النهر إلى البحر: فلسطين حرّة».
كما طالبوا بمنع السفينة «فيلا» (VELA) القادمة من برشلونة في إسبانيا، من أن تستكمل طريقها إلى الأراضي المحتلّة، بعد رُسّوها في ميناء مرسين؛ علماً أن السفينة المذكورة تحمل كمّيات كبيرة من الفولاذ الذي تستورده إسرائيل لأغراض عسكرية. وأصدر المتظاهرون، كذلك، بياناً اتّهموا فيه تركيا بأنها تندّد بحادثة «مادلين»، ولكنّها تصدّر الفولاذ إلى إسرائيل. واعتبر البيان أن «استمرار السفينة فيلا في رحلتها إلى إسرائيل، سيسجّل على أنه شراكة لتركيا في الإبادة الجماعية». وفي الاتجاه نفسه، تظاهر الآلاف، أول من أمس، أمام السفارة الأميركية في أنقرة، بدعوة من النقابات العمالية، احتجاجاً على الدعم الأميركي لإسرائيل، في حين انتقد الخطباء بشدّة موقف تركيا، واعتبروا أن ميناء مرسين «تحوّل إلى ميناء ليس لنقل المساعدات إلى غزة، بل لنقل الأسلحة إلى إسرائيل».
وكانت قد تحوّلت قضيّة السفينة «فيلا» إلى محور اهتمام الرأي العام، بعدما خرج زعماء المعارضة بمواقف مندّدة بموقف الحكومة التركية؛ إذ خصّص أحمد داود أوغلو جزءاً كبيراً من خطابه أمام نواب كتلة الحزب، أول من أمس، حول ازدواجية الخطاب الرسمي التركي، معتبراً السماح للسفينة «فيلا» بالإبحار من ميناء مرسين إلى ميناء أشدود «عاراً»، متّهماً العالم الإسلامي، ولا سيما أنقرة، بالصمت حيال العربدة الإسرائيلية ضدّ «مادلين». ومن جهته، دعا رئيس «حزب السعادة»، محمود أريكان، الحكومة إلى وقف حفلة التغريدات واتّخاذ إجراءات ملموسة.
وقال: «الحكومة منافقة، وفي البرلمان رفضت كلّ الاقتراحات لدعم غزة بأصوات تحالف الجمهور الحاكم». أمّا رئيس «حزب الديموقراطية والتقدّم»، علي باباجان، فقال إن «المسؤولين فقط يغردون ولا يوجد أيّ فعل من جانبهم بل إن مواقفهم هي قمّة النفاق»، في حين وصف زعيم «الحزب الجيّد»، مساوات درويش أوغلو، موقف حكومة بلاده من السفينة «مادلين»، بأنه «خيانة»، و«لا يتّسم بأيّ مصداقية».