شكّلت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس الأخيرة للبنان الحدّ الفاصل بين زمنَيْن: الايديولوجيا الثورية في ما مضى، والسياسة الواقعية اليوم. يتشارك الفلسطينيون هدف قيام دولة قابلة للحياة، إلّا أنّ الخلاف محوره المقاربة والنفوذ. والسؤال الملحّ هو: هل تأتي هزيمة إسرائيل بالعمل العسكري وحده أم بوسائل أخرى أيضاً؟
أخذ العمل العسكري بكلّ أشكاله مداه، وآخره “طوفان الأقصى” الذي أدّى إلى مزيد من الاحتلال والتهجير وعنف بلا حدود، في ظلّ خلل في موازين القوى والتطرّف الإسرائيلي المدعوم من واشنطن وسواها.
أمّا الإنجاز الأبرز فكان في السياسة لجهة وضع حدّ للتطبيع الإبراهيمي وليس في المعادلات العسكرية. إلّا أنّه يبقى بلا مردود في حال ظلّ خارج التقاطع السياسي بين الفلسطينيين والعرب. وهذا التقاطع حمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التخلّي عن طروحات التهجير الجماعي من غزّة وسلوك طريق الواقعيّة بعد زيارته الأخيرة لدول الخليج.
مسار آخر سلكته السلطة الوطنية الفلسطينية بعد اتّفاق أوسلو لم يوقف التوسّع الاستيطاني واعترته شوائب واستئثار بالسلطة، إلّا أنّه لا يزال المرتكز لأيّ تسوية ممكنة عربيّاً ودوليّاً. هذا مع العلم أنّ التعثّر مصدره الأساس إسرائيل، التي انتقلت قيادتها من داعمي أوسلو زمن إسحق رابين الذي قتله التطرّف الإسرائيلي، إلى بنيامين نتنياهو في منتصف التسعينيّات. فتحت انتفاضة الحجارة في فلسطين الباب باتّجاه التسوية، والانتفاضة المسلّحة عام 2000 قضت على المسار، وبات المصير في القبضة الإسرائيلية.
إذا كانت ثمّة حلول فلن تأتي إلّا على قاعدة حلّ الدولتين والمبادرة العربية للسلام التي أُطلقت في قمّة بيروت عام 2002
الكفاح والاجتياح
في الماضي انطلق الكفاح المسلّح خارج فلسطين بعد هزيمة 1967، بداية في الأردن ولاحقاً في لبنان. أخذت الفصائل الفلسطينية مداها في مواجهات مع الدولة والأطراف اللبنانية ومع سوريا وسواها، وباتت لحركات الثورة في العالم قواعد تدريب برعاية فلسطينية في لبنان، وظلّت فلسطين تحت الاحتلال.
عندما التزمت الفصائل الفلسطينية وقف إطلاق النار مع إسرائيل عبر وساطة أميركية في عام 1981، لم يحُل ذلك دون الاجتياح الإسرائيلي في 1982 بحجّة قيام “أبي نضال” المنشقّ عن منظّمة التحرير بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن.
بعدما أصبحت للفلسطينيّين منطقة خاضعة لسلطة ياسر عرفات على أرض فلسطين في 1994، ظهر الانقسام الداخلي وتفاقم بعد رحيل عرفات. أفرزت انتخابات 2006 سلطتين منفصلتين جغرافيّاً: واحدة شرعيّة معترف بها دوليّاً في الضفّة، وأخرى فعليّة في غزّة. اعتبرت إسرائيل بقيادة أرييل شارون أنّ الانسحاب من غزّة واغتيال قادة “حماس” أفضل الممكن، إلى حين وقوع حرب غزّة الأخيرة التي لم تكن في الحسبان.
سلكت حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، مدعومتين من إيران، طريق الكفاح المسلّح في الداخل، واصطدمتا بأقصى التطرّف الإسرائيلي وأركانه المقتنعين أنّ الفلسطينيّين يحتلّون أرضهم، وانتقل الحقّ بالوجود (زمن 1967) إلى الحقّ بالإبادة، وهو ما يحصل اليوم.
في الماضي انطلق الكفاح المسلّح خارج فلسطين بعد هزيمة 1967، بداية في الأردن ولاحقاً في لبنان
مساران وسلطتان
هنا نصل إلى الواقع الراهن: احتلال إسرائيلي غايته القضاء على إمكان قيام دولة فلسطينية، يقابله مساران وسلطتان. واحدة خيارها سياسي وأخرى عسكري، والاحتلال أصبح أداة فُرقة. أمّا خارج فلسطين فمخيّمات اللجوء وامتداداتها، وأبرزها في لبنان، لا سيما بعد تهجير اللاجئين في سوريا إلى مخيّمات لبنان. وأخيراً حلّ “القيادة العامّة” التابعة لأجهزة نظام الأسد بعد سقوطه.
بعد مواجهات مسلّحة استمرّت لسنوات مع أطراف الداخل والخارج، باتت مخيّمات لبنان جزراً أمنيّة تشكّل خطراً على ساكنيها والجوار. وكان أبرز ما أنتجه سلاح المخيّمات في الماضي القريب حركة “فتح الإسلام” بقيادة شاكر العبسي، سجين النظام السوري السابق وأداته. أودت المواجهات بحياة المئات من الجيش اللبناني والفلسطينيين، وكانت عمليّة مخابراتيّة افتعلها العبسي، الذي توارى عن الأنظار، بهدف الفتنة والتخريب.
في الآونة الأخيرة قامت “حماس” بعملية عسكرية في جنوب لبنان، تنصّل منها “الحزب”، وردّت عليها إسرائيل في لبنان وفلسطين. والنتيجة توتّر داخل المخيّمات، وصدام مع السلطات اللبنانية وذريعة إضافية لإسرائيل.
السؤال المطروح: كيف يساعد سلاح المخيّمات في حمايتها، أو كيف يكون سبيلاً للتحرير؟ شكّل هذا الوضع المقلق مضمون زيارة الرئيس الفلسطيني والمداولات التي تبعتها. مسألة السلاح داخل مخيّمات لبنان ليست بالأمر الجديد، وهي مطروحة منذ عقود، ولم تجدِ نفعاً لجهة تحرير فلسطين أو لَجم إسرائيل.
لكي تستقيم العلاقات اللبنانية – الفلسطينية لا بدّ من وضع حدّ لانتكاسات مفاجئة وعبثيّة في ظلّ التحوّلات الكبرى منذ 2023
السّلطة الوطنيّة خطر على إسرائيل
في الواقع ما قد يجدي نفعاً هو دور السلطة الوطنية على الرغم من الأزمات والقدرات المحدودة. وهي مصدر الخطر الأوّل على إسرائيل، لا سيما من المنظار الدولي، بينما “حماس” مصنّفة إرهابية دوليّاً ومتّهمة عربيّاً بعلاقتها بـ”الإخوان المسلمين”، خصوصاً من دول الخليج ومصر، وحتّى سوريا الأسد، علاوة على ارتباطها الوثيق بإيران التي تتفاوض مع واشنطن.
لكي تستقيم العلاقات اللبنانية – الفلسطينية لا بدّ من وضع حدّ لانتكاسات مفاجئة وعبثيّة في ظلّ التحوّلات الكبرى منذ 2023. أمّا مقولة تهديد إسرائيل بسلاح المخيّمات للتصدّي للتوطين، التي راجت سابقاً، فهي باطلة لأنّ مصير السلاح بيد أطراف داخلية وخارجية لها أجنداتها وارتباطاتها المنفصلة عن الدولة اللبنانية، ولأنّ إسرائيل لن تسير في مقايضات متخيّلة. وفي حال سارت، فما من شيء بلا ثمن. العامل الفلسطيني المؤثّر داخل لبنان ليس السلاح أو التفلّت الموسميّ، بل الشعب وحقّه المشروع بدولة تحمي وجوده وتجسّد انتماءه الوطني.
إقرأ أيضاً: هل هي آخر الحروب؟
إذا كانت ثمّة حلول فلن تأتي إلّا على قاعدة حلّ الدولتين والمبادرة العربية للسلام التي أُطلقت في قمّة بيروت عام 2002. وإذا كانت الغاية عودة فلسطين إلى أهلها وإقامة دولة، فالطريق تمرّ عبر السلطة الوطنية. وأيّ خارطة طريق عمليّة تفترض توافقات فلسطينية وأخرى مع لبنان في سياق موقف عربيّ جامع.
ما عدا ذلك، النزاع متواصل والخسارة فلسطينية بالدرجة الأولى والسلام في مهبّ الريح. ولمّا كانت الأطراف المعنيّة تتحرّك من أجل مصالحها الذاتيّة، ومنها إيران وأميركا، فعلى الفلسطينيين المبادرة وعلى لبنان التعاون حتّى لا تبقى المخيّمات أداة فتنة تجلب الضرر المشترك الذي يصيب الجميع باستثناء العدوّ المشترك إسرائيل.
* كاتب وسفير سابق.